من يقرأ فكرة فيلم «فبراير الأسود» ورسالته لا بد من أن يتملكه يقين جازم بأنه أقرب ما يكون إلى جزء ثان في المشروع الفكري الذي يتبناه المخرج محمد أمين، ويدعو من خلاله إلى ضرورة الاهتمام بالعلم والعلماء؛ ففي فيلمه «ليلة سقوط بغداد» (2005) طالب بأن تمتلك الأمة العربية «سلاح الردع» الذي يُرهب عدوها، ويحول بينها و»غطرسة القوة» التي يمارسها. وفي الفيلم نفسه أكد على أهمية احتضان العقليات الشابة التي تُمكن الأمة من امتلاك ذلك «السلاح»، من خلال «ناظر المدرسة» الذي يخشى على الأمة العربية من التهديد الذي يعقبه دمار وفناء يجعل من الشعوب العربية «الهنود الحمر الجدد»، ويتوسم في تلميذه القديم القدرة والملكة والموهبة والعقلية العلمية الفذة التي تتيح له اختراع «سلاح ردع»، وعندما ينجح «الشاب» في هذا لا يلقى ترحيباً من أجهزة الدولة بينما تستميت جهات أخرى معادية في الحصول على براءة «الاختراع»، وامتلاك «السلاح»!

Ad

اليوم، وبعد مرور ما يقرب من ثماني سنوات على تقديم «ليلة سقوط بغداد»، تُلح الفكرة مُجدداً على أمين، لكنه يتوسع فيها أكثر من خلال الدكتور «حسن» (خالد صالح) أستاذ علم الاجتماع الذي يبث في طلبته وأفراد عائلته تقديس العلم وحب العلماء، ولا يكتفي بالموافقة على خطبة ابنته لعالم شاب يستعد لنيل درجة الدكتوراه، التي حصل عليها شقيقه وزوجته قبل أن تنتهي بهما الحال إلى العمل في صناعة «الطرشي والمخللات»، لكنه لا يترك مكاناً في البيت من دون أن يُرصعه بصور العلماء ورموز الحضارة مثل: زويل والباز ونيوتن... وغيرهم!   

هكذا قدم أمين بطله، من خلال صوت الراوي الذي تولى رسم ملامح الشخصيات الرئيسة، لكن روح التفاؤل التي كانت سمة لشخصية «الدكتور»، حتى إنه يُطالب طلبته «بإيقاد شمعة بدلاً من أن يلعنوا الظلام»، تتراجع كثيراً مع مجيء «فبراير الأسود»، الذي سافر فيه وعائلته إلى «الوادي الجديد» وفي الطريق واجهتهم عاصفة رملية عاتية أغرقتهم في بحر من الرمال المتحركة، ولما جاءت النجدة كانت الصدمة أن رجال الإنقاذ اهتموا بانتشال «المستشار» و{اللواء» و{رجل الأعمال»، وتجاهلوا «العالم» ما أصابه بمرارة كبيرة أدرك بعدها أن «العنصرية» تحكم مصر، وأن نظام الحكم لا يعترف سوى بمنظومة ثلاثية تتكون من: «السيادة» ممثلة في الضباط والجنرالات، و{العدالة» ورمزها القضاة والمستشارين و{الثروة» ولسان حالها رجال الأعمال الذين عقدوا صفقات مع الدولة!

هذه المنظومة الثلاثية أو «الفئات الآمنة»، حسبما أطلق عليها أمين، كانت سبباً في أن يكفر «الدكتور» بالوطن، ويؤمن بأنه، و{الفئات المستباحة»، مجرد «لاجئين» في دولة لا تعرف المساواة بين أبنائها، ومن ثم يسعى بكل ما أوتي من عقل لاختراق هذه «الفئات الآمنة»، ويُصبح واحداً منها يتمتع بنفوذها، ويحظى بالحصانة التي تملكها، ويستقر على تزويج ابنته من شاب ينتمي إلى القضاة أو يعمل في جهاز سيادي!

فكرة لا يهتدي إليها سوى محمد أمين، الذي بدأ مسيرته بإخراج «فيلم ثقافي» (2000)، الذي حذر فيه من استفحال ظاهرة البطالة بين الشباب، وإهدار طاقتهم فيما لا طائل من ورائه، و{ليلة سقوط بغداد» (2005) ولم يختلف نهجه كثيراً في فيلمه الثالث «بنتين من مصر» (2010) الذي تجاوز الحديث عن ظاهرة «عنوسة الفتيات» لينبه إلى «عنوسة» أخرى تنتظر الوطن بأكمله. لكن أمين في فيلم «فبراير الأسود» يبدو أسير الفكرة الخلابة، ولا يتخطاها،  ولهذا السبب بدا وكأنه «يدور حول نفسه» ويجتر المواقف ذاتها، وعندما لجأ إلى المبالغة التي تنسجم ورؤيته «الكاريكاتورية» التي تصنع «الكوميديا السوداء» بدا وكأنه قال كل ما يملك، ولم يعد لديه الجديد الذي يقدمه، وكان طبيعياً بعدها أن يتسرب الملل إلى النفس، وهي الآفة التي لم تعرفها «سينما محمد أمين» سابقاً، وتجلت بوضوح في فيلمه الأخير، الذي تراجعت فيه مساحة الخيال والإبداع وزحف إليه الجمود والتقليدية والانقلاب «الأيديولوجي» الذي لا يمكن صدوره عن أستاذ في علم الاجتماع استمرأ تغيير أفكاره ومواقفه كما يغير صور رموز الحضارة على جدران منزله؛ فاليأس الذي تسرب إلى نفس «العالم» وعائلته لا يبرره مطلقاً حادث عابر يعيشه الملايين من أبناء أمة تغرق في الرمال كل يوم من دون أن تتذمر أو تتنمر أو ترغب في الفرار من الوطن، والرؤية هنا تتناقض تماماً مع دعوة أمين إلى امتلاك «سلاح ردع»؛ فمن يكفر بالوطن ويتمنى اللحظة التي يحمل فيها جنسية دولة أخرى، تحت إدعاء التعرض للاضطهاد الديني واستلاب الحرية الفردية، كما فعل الدكتور وعائلته عندما تظاهروا بأن الوطن يضيق ذرعاً بهم لأنهم «مثليو الجنس»، ليس في حاجة إلى «قوة ردع»، وتفكير كهذا هو بمثابة تصرف أحمق وذريعة درامية ركيكة، وفعل قبيح لا يصدر سوى عن «شواذ» وليس عن «علماء»!