لعل الإطلالة في المقال السالف حول بزوغ السيرة الذاتية تبقى بلا ضرورة، لو لم تأتِ كإشارة مهمة إلى فترة تاريخية فاصلة في عمر مجتمع مثل الكويت كان ينقذف بقوة نحو التغيّر والحِراك الثقافي والاجتماعي منذ مطلع الخمسينيات خاصة. ففي هذا العقد بالذات حدثت أكبر حركة نزوح سكاني من مدينة الكويت –التي أضحت مركزاً مالياً وتجارياً– نحو الضواحي المحيطة، لتتواكب مع ازدهار عمراني لافت. ولعل معظم أبناء جيلي من مواليد الخمسينيات لا يكادون يتذكرون شكل المدينة القديمة، أو ملامح البيوت التي ولدوا فيها ثم غادروها أطفالاً بذاكرة غضة مموّهة لا تكاد تعي ما حولها.

Ad

بيد أن الذاكرة تبدأ بالتيقظ حين تتزامن أعمارنا –ونحن ندرج نحو الخامسة والسادسة من العمر– مع حركة التعليم الطليعية حينذاك، والتي كانت قد بدأت حديثة ومتمكنة ونحن ندخل صفوفنا الابتدائية. ويأتي انبهارنا الأول أمام معمارية مدارسنا الحديثة البناء، والتي كانت آية من آيات الفن المعماري، بأبهائها الفسيحة، وأقواسها ومشربياتها، وأرضياتها الرخامية الصقيلة، وأفيائها الظليلة، وحدائقها الغنّاء، فضلا عما تنفحه أجواؤها من عبق يُشعر بالرفاهية والرعاية والأنس والدعة. لا تدري من أين يأتيك الشعور بالطمأنينة؟! أهو الانتماء إلى مؤسسة كانت تتبنانا من الألف إلى الياء، حين تبدأ الرعاية المجانية من ملابس الزي المدرسي والوجبة الغذائية الساخنة، مروراً بخدمة التوصيل اليومي بالباص ذهاباً وإياباً، وانتهاءً بتوفير الكتاب والدفتر وقلم الرصاص والمسطرة؟! أم هو جو الدرس ووجوه مدرساتنا حين تمتزج الرصانة باللهو والحزم بمتعة الانفلات وبراءته؟! أم تراها نفحات العوالم المعرفية التي تتفتح أمام دهشة الطفولة وجدة خبرتها بالحياة ومشاهد الحياة؟ بل الأعجب أن تُنقش تلك الصفحات في ذاكرة من حجر :

"علمُ بلادي / لونُه أحمر / عليهِ كلمةُ كويت / أنا أعرفُ علمَ بلادي / أنا أراهُ في مدرستي / فوق دور حكومتنا أعلامٌ"... هكذا بالتشكيل السليم الفاقع. و"لي جدةٌ ترأفُ بي / أحنى عليَّ من أبي" و"كان في بعض الرياضِ قبّرة / تطيّرُ ابنها بأعلى شجرة"... و"عصفورتان في الحجاز حلّتا على فنن / في خاملٍ من الرياض لا ندى ولا حَسَن"... إلخ من مخزون لا ينفد!

يقيناً أننا الجيل الأكثر انتفاعاً بثمار النهضة التعليمية والاجتماعية الحديثة، وربما أيضاً الجيل الذي عُقدت عليه الكثير من الآمال في تحقيق خطط التنمية البشرية الطامحة التي كانت تُرسى أسسها حينذاك. لقد كانت سنوات عقدي الخمسينيات والستينيات بكل المقاييس سنوات وفرة اقتصادية، وسنوات بناء مطرد للمؤسسات التعليمية والخَدَمية، وسنوات للتحوّل والتحديث، وسنوات للأحلام والطموحات.

وما كان الجو الاجتماعي خاصة بمعزل عن هذه التطورات العامة. فعلى صعيد الحياة الاجتماعية كان هناك لون من المرونة في تقبّل مستجدات المرحلة، وروح أقرب إلى التلاؤم والمهادنة منها إلى التحفظ والنفور. وإذا كان هذا يصدق بصورة شبه عامة على البالغين من فئات المجتمع المختلفة، فلعله يصدق بصورة مطلقة علينا نحن الأطفال حينذاك. فقد ولدنا لنجد أنفسنا في مدينة حديثة، نعيش حياةً عصرية، ونتلقى تعليماً حديثاً، وننعم بأدوات الحضارة المتاحة كالكهرباء والتلفزيون والسيارة والهاتف... إلخ. لذلك لم تشكل لنا النقلة الحضارية أزمة أو إشكالية. وحين يتحدث آباؤنا عن مهنة الغوص على اللؤلؤ، وبيوت الطين، وجلسة الكتاتيب، وشظف العيش قبل عهد النفط، يلذّ لنا الاستماع والإنصات، تماماً كما يلذّ لأي طفل الاستماع إلى القصص التراثية والأسطورية التي توقظ المخيلة وتغذّي الفضول وتلهب مشاعر الانتماء والتعاطف.

ومن هنا كان هناك خط فاصل رهيف بين جيلنا وجيل آبائنا. هو مجرد خط رهيف وليس حاجزاً كؤداً. لأنهم وبفضل حسّ من المرونة والمهادنة كانوا يروننا أبناء زماننا ونتاج عصرنا، وكانوا يقرّون لنا ما لم يُتحْ لهم. ففي حين كنا نحن نتلقى تعليماً عصرياً مميزاً، كانت أمهاتنا أميّات لا يحسنّ القراءة والكتابة، وفي حين كنا نرتدي الملابس العصرية وننطلق متصالحات مع مظهرنا الخارجي ووجوهنا السافرة المتطلعة، ظلتْ أمهاتنا متدثرات بالعباءة والبوشية حتى آخر حياتهن.

ورغم التغيرات الاجتماعية في السلوك والعلاقات والمظاهر، يظل لون من الاعتدال والوسطية يحكم الجو الاجتماعي عامة، وتظل أنماط من التقاليد والعادات غائرة الجذور وباقية رغم كل شيء، لتعطي ذلك المجتمع هويته وسمته.

يتبع