تبدو قضية التعبير عن الحب إشكالية من إشكاليات شعر أحمد شوقي. وإيراد هذه القضية في سياق الحديث عن مسرحية "مجنون ليلى" أمر جوهري، حين محاولة التعرف على الموانع والمعيقات التي جعلت الشاعر في عموم شعره يبدو متحفظاً أو ناظماً تقليدياً للنسيب والغزل، أو متردداً إزاء موضوع الحب والمرأة عموماً، ثم كيف استطاعت مسرحية "مجنون ليلى" أن تسدّ بعض الثغرات المقلقة في أدائه، في ما يخص هذا الموضوع، وتعيد لشعره شيئاً من التوازن العاطفي والفني إن صح التعبير.

Ad

لن نكرر مقولاتنا حول طبيعة الجو الاجتماعي والشخصية الرصينة التي عاش شوقي في إهابها مدى حياته، وإنما يمكن استكمالاً لذلك المهاد أن نعرج على وضع المرأة في عصر شوقي، وتعدّد الأوجه التي ظهرت بها، وتذبذب القيم الثقافية حول كينونتها، الأمر الذي أوقع الشاعر في المزيد من القلق والبلبلة حين مقاربة هذا الموضوع الشائك.

يمكن القول بدءاً إن المرأة في عصر شوقي ظهرت في صورتين، وكان الشاعر يشخص فيهما، كل على حدة، ويدبّج حول كل صورة ما يعنّ له من آراء وخطابات، أغلبها انطباعية سطحية لا غور فيها ولا عمق. أما الصورة الأولى التي رأى فيها الشاعر المرأة وعاينها عن قرب فقد كانت من خلال ما يحضره من حفلات راقصة واستقبالات تقام في قصر الخديوي، حيث تبدو له المرأة فتنة ظاهرة ومبذولة في الثياب والعطور، وفي القدود الممشوقة والوجوه اللامعة، وفي الحضور المستجيب لكل ما تفرضه اللياقات الاحتفالية من تجاذب في الحديث وأنس وودّ متبادل. أجواء تشبه ما رآه في باريس وأوروبا، حيث المرأة تبدو -للشاعر على وجه الخصوص- حضوراً جمالياً صرفاً ومثيراً أولياً للنظر والحواس، تُراقَب بعدسة بصرية تقدِّر هذه القيم الجمالية (الظاهرة) وتسكر بنشوتها، لكن تأبى أن تحيلها إلى قيم قلبية أو تستجليها ببصيرة الدهشة والكشف.

إلى جانب هذه الصورة الملونة للمرأة/ التمثال المبذولة للحسّ والغواية تتوازى صورة أخرى عاكسة لواقع المرأة الحياتي في عصر شوقي. ويطل هذا الواقع الحياتي في الشعر كأحد الأغراض والطروحات الشعرية آنذاك، ونعني به ما يسمّى بـ"الشعر الاجتماعي" أو بالأحرى "الشعر الإصلاحي". فقد شهد مطلع القرن العشرين دعاوى التنوير والإصلاح السياسي والديني والاجتماعي متمثلة برموزها الإصلاحية ممن عاصرهم شوقي كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين. وقد كان من نصيب الشعر لكي يجاري تلك الموجة الإصلاحية أن يُدلي بدلوه في قضايا المرأة والفقر والجهل والتخلف عن ركب الحضارة الحديثة وغيرها، مما يقع في خانة "الشعر الاجتماعي"، وقد كان لهذا اللون من الشعر أعلام معروفون كحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي والزهاوي وغيرهم. ويبدو أن أحمد شوقي أبى إلا أن "يكون له في كل عرس قرص" كما يقول المثل، فخاض في مجال "المرأة" وواقعها الاجتماعي بنصوص نادرة برزت على استحياء وحذر.

ولو عدنا إلى تأمل كلتا الصورتين السالفتين للمرأة في شعر شوقي، سواء المرأة اللعبة المؤطّرة ببهرج المظهر وتركة التراث، أو المرأة الواقعية المطمورة بجور التقاليد وأصفاد الأعراف، لوجدنا أن الصورتين كانتا تمثلان للشاعر مصدر قلق وتذبذب لا يُنكر، وتدلان على قلة إيمانه بهما وعدم اكتراثه حين يمرّ بهما مرور العابر المتعجّل. ولعل قلة الإيمان والقلق إزاء أي وجه من وجوه الحياة  سيدفعان الإنسان لا محالة إلى البحث عن صورة أكثر إقناعاً وأدعى للطمأنينة. ويبدو أن أحمد شوقي، وهو بصدد البحث عن هذه الصورة المتمناة في ما يتعلق بالتعبير عن عواطف الإنسان ووجدانياته يعثر بمفهوم أقرب إلى الفطرة الإنسانية السويّة، وذلك حين يقبض بأصابعه على فكرة "العذرية" في الحب، وما تحمله من أبعاد موغلة في النقاء والبراءة ويقظة الوجدان الأولى وجِدَّة القلب الذي لم يتلوّث بمفاهيم وأعراف طالما حجبت جوهر الحب وتلقائيته.

لقد كان عثور أحمد شوقي على حكاية "مجنون ليلى" وإعادة صياغتها في شكل مسرحية باباً ملائماً للولوج إلى عذرية الوجدان التي ظلت كامنة في دواخل الشاعر، ومحجّبة بالسمت العقلاني الرصين الذي ميّز شخصيته الإنسانية والشعرية.