بدون قصد... لا شك أنَّ اختيار المعارضة السورية للكردي غسان هيتو من مواليد دمشق عام 1964، أي بعد عام واحدٍ من تسلم حزب البعث للسطة التي تسلمها في الثامن من مارس عام 1963، جاء كهدية عيد النوْروز، ليس للأكراد السوريين فحسب، بل لأكراد المنطقة كلها؛ تركيا والعراق وإيران أيضاً.

Ad

وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدل على أن هذا البلد، أي سورية، بالأساس مجتمع مدني لا يعرف المذهبية ولا الطائفية ولا التعصب العرقي والقومي، وذلك قبل أن يُبتلى بهذه البلوى التي بدأت بالحزب والجيش في بدايات ستينيات القرن الماضي، ووصلت إلى ذروتها بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه عام 1970.

إن من حقِّ غسان هيتو أن يكون رئيس الحكومة الانتقالية التي شكلتها المعارضة السورية للإشراف على المناطق والمدن التي غدت تخضع لسلطتها وبخاصة في الشمال السوري، فهو سوريٌّ أباً عن جد، ومن يوم ولادته وحتى مجيء صلاح الدين من قلعة تكريت في العراق إلى دمشق، يوم كانت هناك دولة واحدة تخضع للخلافة العباسية، وهو مثله مثل عبدالباسط سيدا، الذي كان رئيس المجلس الوطني المعارض، والذي يعد جزءاً من الحركة الوطنية في هذا البلد، الذي يمتاز بتنوعه وتعدديته، وينطلق من منطلقات وطنية عامة، وليس من منطلق أقلية مذهبية أو عرقية.

وقد يكون من غير المعروف للبعض أن شكري القوتلي الذي كان الأكثر اندفاعاً للوحدة السورية-المصرية (الجمهورية العربية المتحدة) والذي كان في طليعة الاستقلاليين العرب عن فرنسا وعن الدولة العثمانية، كان ينتمي إلى أصولٍ كردية، وكذلك فإن قائد أول انقلاب عسكري عربي، وهو حسني الزعيم عام 1949، كان كردياً، إضافة إلى محسن البرازي الذي كان رئيس وزرائه وأعدم معه بعد انقلاب سامي الحناوي، الذي كان ثاني الانقلابات العسكرية السورية، وأكثرها دموية. وهذا ينطبق أيضاً على فوزي سلو الذي تسلم رئاسة الدولة السورية لبعض الوقت بعد انقلاب أديب الشيشكلي الذي يعتبر إلى جانب أكرم الحوراني صانع الانقلابات العسكرية التي أوصلت هذا البلد العربي العظيم إلى هذا الوضع الذي وصل إليه.

وما هو غير معروف أيضاً أن محمود الأيوبي، الذي تسلم رئاسة الوزراء في سورية بضعة أعوام، وتسلم وزارة التربية والتعليم فترة طويلة وكان بعثياً متحمساً، وقد زاملته في عضوية إحدى الفرق الحزبية في دمشق في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كان كردياً أيضاً، وينتسب كما هو واضح إلى العائلة الكردية الأيوبية التي ينتسب إليها "البطل العربي" صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه.

لم يكن للأكراد، قبل ظهور هذه النزعة القومية التي تعززت في هذه المنطقة، بعد انتقالها من الغرب في بدايات أربعينيات القرن الماضي، أي تطلعات خارج التطلعات الوطنية لأشقائهم العرب في الأوطان التي هي أوطانهم جميعاً، بل كان بعض الأكراد قادة في حركة التحرر العربية، عندما كانت العروبة رابطة حضارية وثقافية، وليست تعصباً عرقياً مقيتاً.

ولعلّ من هو ضروري ذكره في هذا المجال، بالإضافة إلى شكري القوتلي ومحمود الأيوبي، هو أنَّ سعد جمعة الكردي الذي شغل منصب رئيس الوزراء في الأردن عام 1967، كان متطرفاً في الدفاع عن العرب والعروبة، وأن هناك عائلات فلسطينية شهيرة من أصول كردية لعبت أدواراً مشرفة في حركة التحرر الفلسطينية، وأن شاعر العروبة أحمد شوقي نفسه من أصول كردية، وأن الأمثلة على هذه المسألة في العراق لا تعد ولا تحصى... وبخاصة قبل بدايات ستينيات القرن الماضي، عندما كان لابد من أنْ يؤدي التطرف في النزعة القومية العربية إلى نزعة قومية كردية، كان بدأها محمود الحفيد وجاء بعده الملا مصطفى البارزاني.

ولهذا فإنه لا يجوز أن يكون مستغرباً أن تختار المعارضة السورية الكردي غسان هيتو رئيساً لحكومتها الانتقالية، بل إنه يجب تقدير هذا الاختيار الذي يعطي مؤشراً قوياً على أنَّ سورية الجديدة ستكون دولة مواطنة، وأن المجتمع السوري بعد كل هذه العذابات وبعد كل هذه الأعداد من الشهداء سيكون كمجتمع تلك المرحلة العظيمة الجميلة عندما تم اختيار فارس الخوري من الجنوب اللبناني رئيساً للدولة السورية ورئيساً للوزراء ورئيساً لمجلس النواب، وأيضاً... وزيراً لوزارة الأوقاف الإسلامية.