لماذا تقليص العجز والديون الآن؟

نشر في 29-03-2013
آخر تحديث 29-03-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في مختلف أنحاء العالم، تعمل المناقشات المحتدمة حول ضرورة تقليص العجز الضخم في الميزانية وتوقيته وكيفيته ومداه والمستويات المرتفعة من الديون السيادية على تقسيم صانعي السياسات والرأي العام، وتتكاثر تدابير الإنفاق والسياسات والمقترحات الضريبية والنقدية والتنظيمية التي تتسم بالتضارب التام. هل نقلص ديون الموازنة، أم لا، تلك هي المسألة.

ويطالب اليسار السياسي بالمزيد من الإنفاق، وزيادة الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة، وتأخير تقليص العجز والديون، على سبيل المثال، يقترح الخبير الاقتصادي والكاتب في صحيفة نيويورك تايمز بول كروغمان الانتظار لعشر سنوات أو خمس عشرة سنة. (ولقد ساق العديد من نفس الأشخاص الحجج لأسباب مماثلة ضد سياسات خفض التضخم الناجحة التي تبناها بنك الاحتياطي الفدرالي في أوائل ثمانينيات القرن العشرين). ويدعو اليمين السياسي إلى خفض العجز بسرعة أكبر من خلال خفض الإنفاق.

في أوروبا، يطالب صانعو السياسات، بما في ذلك البنك المركزي الأوروبي، بتقليص العجز والديون لدى الدول المثقفة بالديون، ولكنهم يتسمون بالمرونة في المفاوضات؛ ولكن الناخبين يرفضونه- كما حدث في إيطاليا مؤخرا. وفي الولايات المتحدة، يقترح الجمهوريون ضبط الموازنة في غضون عشرة أعوام من خلال إصلاح الإنفاق على برامج الاستحقاقات والضرائب (مع الإقلال من عدد الإعفاءات والخصومات، والائتمان الذي يوفر العائدات المطلوبة لخفض معدلات الضرائب الشخصية ومعدلات الضرائب على الشركات، التي تعد الأعلى على الإطلاق بين بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عند مستوى 35%).

ويقترح الديمقراطيون في مجلس الشيوخ الأميركي جمع 1.5 تريليون دولار في هيئة ضرائب أعلى على مدى الأعوام العشرة المقبلة (فضلاً عن 600 مليار دور تم الاتفاق عليها في أوائل يناير)، ومئة مليار دولار (ضعف ما اقترحه الديمقراطيون في مجلس النواب) في هيئة إنفاق تحفيزي جديد، وخفض الإنفاق بشكل أكثر اعتدالاً ولأمد أطول. وتعني نسختهم من الإصلاح الضريبي خفض الاستقطاعات للأثرياء والشركات، مع عدم خفض المعدل.

ولكن ما هي التكاليف والفوائد المحتملة التي قد تترتب على الحوافز في مقابل تقليص العجز والديون؟ وما أفضل مزيج من خفض الإنفاق وزيادة الضرائب؟

يتفق خبراء الاقتصاد على أنه في حالة التشغيل الكامل للعمالة، يعمل ارتفاع الإنفاق الحكومي على مزاحمة الإنفاق الخاص. وتُظهِر النماذج الكينزية التي تزعم أن الإنفاق الحكومي الأعلى عند مستوى أدنى من التشغيل الكامل للعمالة يعطي دفعة سريعة أن التأثير سرعان ما يتحول إلى السلب. ولهذا فلابد من تكراره، مثل الدواء، من أجل دعم الاقتصاد، بيد أن هذه الاستراتيجية كانت سبباً في تكبيل اليابان بأعلى نسبة ديون إلى الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم، وبلا فائدة تُذكَر.

لا شك أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن زيادة الإنفاق الحكومي قد تكون فعّالة في رفع الناتج ومستويات تشغيل العمالة بشكل مؤقت أثناء الركود العميق الطويل عندما يخفض البنك المركزي أسعار الفائدة القصيرة الأجل إلى الصفر. ولكن نفس الأبحاث تشير إلى أن مضاعف الإنفاق الحكومي من المرجح أن يكون صغيراً أو حتى سلبياً في مجموعة متنوعة من الظروف، وأنه سوف يتقلص بسرعة في كل الأحوال.

وتشمل هذه الظروف أولا، ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع تسبب ارتفاع أسعار الفائدة في تعويق النمو. وعلى نحو مماثل، من المرجح أن تعمل زيادة الإنفاق الحكومي أثناء فترات التوسع على مزاحمة الإنفاق الخاص. والإنفاق على مدفوعات التحويل أو المشتريات غير العسكرية- والتي من الممكن أن تصبح راسخة أو يصبح تدبيرها ممكناً بسعر أرخص من الخارج (على سبيل المثال، الألواح الشمسية وتوربينات الرياح على التوالي، في الحوافز المالية التي اعتمدت في أميركا عام 2009)- من المرجح أيضاً ألا يعود بأكثر من مضاعف صغير. وعندما يتمتع أي اقتصاد بأسعار صرف مرنة، فإذا تسبب الإنفاق الحكومي في رفع أسعار الفائدة، فإن العملة تصبح أقوى، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الاستثمار وصافي الصادرات. وأخيرا، قد تهدر التأثيرات المترتبة على الإنفاق الحكومي الإضافي بسبب توقع الناس لرفع الضرائب بمجرد خروج البنك المركزي من قيد الصفر الأدنى على أسعار الفائدة (الأمر الذي يجعلهم يحدون من إنفاقهم الآن).

وتنطبق هذه الاعتبارات على الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية اليوم. فإلى جانب التصميم الرديء، فإنها تفسر السبب الذي جعل التحفيز الأميركي في عام 2009 يكلف عدة مئات من آلاف الدولارات عن كل وظيفة يتم إنشاؤها.

وتكشف أبحاث حديثة أيضاً عن أن تقليص العجز والديون بنجاح في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منذ الحرب العالمية الثانية- والذي تم تعريفه باعتباره تثبيتاً لاستقرار الميزانية مع تجنب الركود- بلغ في المتوسط من خمسة إلى ستة دولارات من خفض الإنفاق الحقيقي عن كل دولار من زيادة الضرائب. وكان خفض الإنفاق، وخاصة على برامج الاستحقاقات والتحويلات، من غير المرجح أن يؤدي إلى الركود بنفس القدر مقارنة بالزيادات الضريبية. ولكن من المؤسف أن الغلبة كانت للزيادات الضريبية في العديد من حالات تقليص العجز والديون في أوروبا، بما في ذلك خطة إنقاذ قبرص المقترحة في الأسبوع الماضي.

لا شك أن الحذر واجب من أجل تجنب الإفراط في تقدير الفوائد المترتبة على تقليص العجز والديون في الأجل القصير. ذلك أن الاقتصاد الأميركي والأوروبي يختلف اليوم إلى حد كبير عن الحال في مرحلة ما بعد الحرب- الحجم، وتقليص العجز والديون في نفس الوقت في العديد من الدول، وأسعار الفائدة المنخفضة بالفعل، ووضع الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية.

ولكن فيما عدا الركود العميق، فإن صلاحية زعم أتباع جون ماينارد كينز بأن تأخير خفض الإنفاق ضروري لتجنب تقويض الاقتصاد غير واضحة في أفضل تقدير، وقد يترك هذا الزعم فترات الرواج الطويلة باعتبارها الضرورة الوحيدة لضبط الإنفاق. كما تعمل حالات العجز الضخم ومستويات الديون المرتفعة على الحد من احتمالات الرواج الطويل الأجل. فضلاً عن ذلك فإن التدرج الناجح في الخفض مع تعافي الاقتصادي ليس بالمهمة السهلة، نظراً لعوامل الاقتصاد السياسي التي تحيط بالميزانية وعجز أي تشريع عن تقييد التشريع التالي له.

والأسوأ من هذا هو أن تكاليف التأخير وزيادة العجز والديون باهظة. على سبيل المثال، في غياب إصلاح كبير لبرامج الاستحقاقات في الولايات المتحدة- والتي تتضخم في حجمها نتيجة لارتفاع الفوائد الحقيقية لكل مستفيد والشيخوخة السكانية- فإن الجيل القادم من الممكن أن يتوقع انخفاضاً في مستويات المعيشة بنسبة 20%.

إن أكثر الإصلاحات مصداقية هي الإصلاحات البنيوية- على سبيل المثال، رفع سن التقاعد وتغيير صيغ الفوائد- التي يصعب تغييرها بمجرد تنفيذها. ومجرد تحديد هدف بالدولار (أو اليورو أو الجنيه) لخفض الميزانية وسيلة أقل فعالية، لأن الهدف قد يخضع للتنقيح بسهولة- وقد ينعكس اتجاه التخفيضات- لتجنب الآلام السياسية.

وإذا كانت هناك بعض الحوافز القصيرة الأجل التي يتم تنفيذها في الوقت المناسب وعلى نحو من المرجح أن يؤدي إلى زيادة الناتج وفرص العمل بتكاليف معقولة في الأمد البعيد، فما كنت لأتردد في دعمها. ولكن الأدلة تشير إلى أن السياسة المالية الفعّالة، حتى عند بلوغ أسعار الفائدة مستوى الصفر، تظل تشكل في أفضل تقدير احتمالاً نظريا، وخاضعاً لقيود سياسية شديدة. وفي حين قد يعني خفض العجز والديون بعض التكاليف القصيرة الأمد، وخاصة في أوقات الركود، فإن التكاليف البعيدة الأمد المترتبة على التأخير باهظة. وقد يكون من الأفضل أن يتم تنفيذ برنامج معقول لخفض العجز والديون تدريجيا؛ ولكن تقليص العجز والديون لا بد أن يمضي قدماً في كل الأحوال- وفي المقام الأول من خلال التحكم بالإنفاق.

* مايكل ج. بوسكين | Michael J. Boskin ، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، وكبير زملاء معهد هووفر، وكان رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس جورج بوش الأب أثناء الفترة 1989-1993.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top