أهم ما حققته، ما باتت تُعرف بثورات الربيع العربي، هو كسر حاجز الخوف لدى المواطن العربي، الخوف من الحاكم، والخوف من السلطة، والخوف من المجهول، وأخيراً الخوف من الموت، وكأن لسان حالنا يقول: أنا الغريق فما أخشى من البلل!

Ad

أخبرني أحد الأصدقاء من كتّاب سورية، الذي مازال صامداً لم يغادرها حتى اللحظة: "أشدّ ما بات يؤلمني هو نظرة وإحساس الخوف الذي يلازم أطفالي"، كنا نتكلم عبر الهاتف، وكنتُ أستشعر مرارة نبرة صوته: "لعقود تربى جيلنا على مواجهة السلطة، وتوقع الاعتقال والسجن. وتعودت أرواحنا على معايشة الخوف من وقع اللحظة القادمة". كان يحدّثني وكنتُ أسمع بصوته أصوات مئات الأصدقاء الكتّاب والفنانين العرب، وأكمل يضيف: "مجافاة السلطة والخوف من بطشها عاش معنا وعشنا به". وتغيرت نبرته وهو يخبرني: "أطفالي يغمرهم خوفٌ مختلف". وكما لو أنه يترك لمخيلتي تصوّر شكل ذلك الخوف، صمت لثوان قبل أن يضيف: "هم ليسوا بخوف من السلطة، ولا جنودها وعملائها، لكنهم يعيشون خوفاً من الحياة أكثر من خوفهم من الموت. أصبحت حياة اللحظة القادمة مجهولة تخيفهم حد الجزع".

سكت صديقي ليلتقط أنفاسه، وهالني النظر في الفكرة العابرة: الخوف من الحياة يعدل بمرات الخوف من الموت. فأن يخوف إنسانٌ من الموت فهو يخشى شيئاً مجهولاً، لكن أن يعيش ويعايش الخوف من الحياة فهو يعتاش على الخوف طوال وقته!

ودعت صديقي وخوف موجع يمسك بقلبي. جلست وحيداً وصمت الضياع يحيطني: إلى أين سيأخذنا خوفنا من اللحظة القادمة؟

إن نظرة بسيطة على أوضاع أقطار وطننا العربي تؤكد أن الطبيعي هو خوفنا أجمع مما هو قادم، فما ينتظر أوطاننا أبداً لا يبشر بخير، وأنا هنا لا أقرأ الطالع ولا أتنبأ بما هو آت، بقدر ما أرى رأي العين تلك الغيمة السوداء التي تحتوي أفق أيامنا، رغم كل ما عشت أردده: إن السماء المشرقة تسكن فوق الغيم الأسود العابر!

دورة الحياة لا تقف، لكن الخوف مما هو قادم يسكن قلب العربي الصغير والكبير. المفكرون والمبدعون والأدباء والمثقفون العرب مطالبون أكثر من أي وقت، بتقديم تحليلهم لتعقيدات الواقع، وتصوراتهم لما هو قادم، وهذا من شأنه أن يضعهم في قلب الحدث الدائر، ويجعل فئة من المواطنين العرب تتواصل مع عطائهم الفكري، وتسمع صوت العقل والأمل بكلماتهم، فلقد طغى صوت العنف والدم والقتل على أي صوت آخر.

إن اتهام المفكر والمبدع العربي بأنهما غابا عن الفعل على ساحة الثورة العربية، اتهام يفتقر إلى عمق النظرة، فلا ينحصر حضور المفكر والمبدع بقيادتهما للتظاهرات وتواجدهما في الصفوف الأولى منها، ولو أنه لا مانع من ذلك، لكن حضور المفكر والمبدع والمثقف العربي الأهم، يتمثل برأيي في تأمل وقراءة المشهد العربي المنفلت والدامي، ومن ثم التفكير بموضوعية وعقلانية وإخلاص للأمة والوطن في كيفية التعامل معه بأقل الخسائر، وتأمين شيء من الأمل في قامة الغد المقبل!

الأمم أحوج ما تكون لإخلاص أبنائها لحظة احترابها، ولحظة وجعها، ومؤكد أننا نعيش هذه اللحظة، ولذا يستعين كل حزب بأتباعه، ولأن المفكر والمبدع والمثقف محسوب على الأمة برمتها، فإنه يجب أن يكون عند حسن الظن به، وأن يقول كلمته التي لا يقدر سواه على قولها.

الخوف يسكن قلوب أطفالنا، ويبث الهلع والدمع في مقل عيونهم الحبيبة، وليس أقل من أن نعمل على تأمين لحظات حياتهم المهددة، ومحاربة ذلك الخوف الأسود، بشيء من العقلانية وشيء من الأمل حتى لو كان ذلك صعباً.