خطاب شعري جديد: تكريس النسوية (2)

نشر في 13-08-2013
آخر تحديث 13-08-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس كان لجوء نازك الملائكة إلى ذلك الشرح المسهب حول مشروعها الشعري والحرص على توثيقه، سواءً في مقدمة ديوانها التي كتبتها عام 1949م أو في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" الصادر في طبعته الأولى عام 1962م، يحمل دلالة الرغبة في الكشف والإعلان عن ذات شعرية مغايرة وعن أنوثة بازغة تأتي معادلة للإنسانية في ضعفها وبساطتها، وشجنها وبوحها وصدقها الأقرب إلى المكاشفة، أنوثة تعتني بما لا يعتني به شعر الفحولة المجلجل الجامح المتأسس على التصنع والاستعلاء.

  هذه القيم الشعرية الأنثوية المنفتحة على عوالم مختلفة (مسكوت) عنها ومُتجاهَلة في الخطاب الشعري الفحولي لم تكن وقفاً على نازك الملائكة، وإنما غدت خطاباً نسوياً مميز اللهجة لشاعرات جيلها عامةً. ولعل التفاتة متأملة في شعر (ملك عبدالعزيز) يقربنا من مشهد أكثر إيغالاً في تفجير طاقات الذات وتلمّس أصقاعها حين "تشكو وتقلق وتخاف وتحب وتتفلسف وتتمرد من غير صراخ أو جهارة، أو أي محاولة لاستثارة الدهشة عند القارئ ومخاطبته بين المعجزات والرعود. والشاعرة رغم الغلالات الشعرية ورغم الرموز، فشعرها يقدمها بسيطة بساطة الإنسان العادي الذي لا يبرق ولا تلفه النبوة أو الجنون"، كما يقول د. عبده بدوي في دراسة حول الشاعرة. كل هذه السمات تقرّبها كما نرى من روح الشعر في براءته الأولى وتمسُّحه باللطف والعذوبة، وتعبيره عن اعتيادية الإنسان وبساطته، وصدقه إزاء ما يدهشه أو يمضّه، وتعامله مع الرفيق من الرموز الدانية والصور المضببة الهاربة. وعلى قدر ما قرّبت هذه النزعة الشاعرة (ملك عبدالعزيز) من ملامستها لعوالمها الحقيقية، فقد أبعدتها كما نرى عن الأعراف الشعرية الذكورية المتداولة حول الخطابية والجهر وتمجيد الذات، ومواكبة نعرة التسلط الأسلوبي والتصوير ذي الألوان الحادة.

  أما فدوى طوقان فيبدو للمتأمل في سيرتها الحياتية أن لديها من الدوافع النفسية والروحية ما يهيئها لأن تكون أولى المتحفزات للتحرك وكسر وطأة القيد والقهر. فقد مثلت لها سلطة الأب والعائلة وتقاليد المجتمع رموزاً للسلطة الذكورية الجائرة على مستوى حياتها المعيشة، فأتت رحلتها (الجبلية الصعبة) رحلةً مضنية وباهظة الثمن في مقام الخلاص وتحقيق الذات. تقول فدوى طوقان في مقام تقييمها لرحلتها الحياتية والإبداعية:

 "كيف استطعتُ في حدود ظروفي وقدراتي أن أتخطى ما كان يستحيل تخطيه لولا الإرادة والرغبة الحقيقية في السعي وراء الأفضل والأحسن، ثم إصراري على أن أعطي حياتي معنى وقيمة أفضل مما كان مخططاً لها. القالب الفولاذي الذي يضعنا فيه الأهل، ولا يسمحون لنا بالخروج عليه. القواعد المألوفة التي يصعب كسرها، التقاليد الخالية من العقل، والتي تضع البنت في قمقم التفاهة. كنتُ توقاً مستمراً إلى الانطلاق خارج مناخ الزمان والمكان، والزمان هو زمان القهر والكبت والذوبان في اللاشيئية، والمكان هو سجن الدار. على هذا الطريق الصعب رماني المجهول، ومن هذا الطريق الصعب بدأت رحلتي الجبلية. حملتُ الصخرة والتعب، وقمت بدورات الصعود والهبوط، الدورات التي لا نهاية لها. لا يكفي أن نحمل آمالاً كباراً وأحلاماً واسعة، حتى الإرادة وحدها لا تكفي. لقد أدركتُ أن العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة، وقررت أن أتعامل مع هذه العملة ذات الوجهين: الإرادة والعمل. لقد ظلت أحلامي تخطط دائماً لقطع صلتي بكل ما هو رمز للسلطة في العائلة: الأب، أبناء العم، العمة، ونفرت من كل هؤلاء، ومن هنا تعلمتُ فيما بعد كراهة كل ما يمثل السلطة الجائرة والحكم الظالم في مختلف مؤسسات المجتمع".

  إن المتأمل في سياق السرد الحياتي لفدوى طوقان، لابد أن تستوقفه ثلاثة تعبيرات تكاد تشكل المفتاح الذهبي لفهم دوافع الشاعرة وجموحها الحار نحو البحث عن الخلاص والانعتاق على المستويين الحياتي والشعري، ونعني بها تعبيرات: "السلطة الجائرة"، "الحكم الظالم"، "مؤسسات المجتمع". وإذ تجرّب فدوى طعم تسلّط وظلم مؤسسات المجتمع، تتبلور لديها تلقائياً تلك الإرادة للخروج من هذه المتاهات المُهلكة. ويبدو أن الشاعرة وهي تؤسس وعيها المعرفي بالمشهد الأدبي، كان إدراكها يتزايد بأن الجور لا يتمثل بسلطة العائلة والأب وأعراف المجتمع فقط، وإنما يتمثل أيضاً بسلطة النص الشعري وجبروته الفائح برائحة الفحولة، والذي كان بما يفرضه من قيم فنية ونقدية يمارس لوناً آخر من القمع للذات المؤنثة وتفتّحها البكر على الحياة والفن.

back to top