من الذاكرة: فيل خريسان
وكأنها حقيقية وليست تخيلات أملتها وحشة المكان وعزلته وابتعاده عن تقاطع الطرق، فالشائع بين أهل هذه المنطقة والمناطق المجاورة لها أن الوادي، الذي ينفلت من جبال وهضاب صوانية جرداء والذي قبل أن يلتقي بـ"سيل الزرقاء" إلى الشرق من "طواحين عدوان" بمضيق صخري شديد الاختناق، مسكون بـ"فيل" أسطوري لديه القدرة على التحول إلى إنسان أو حصان أو بقرة أو إحدى هوام الأرض.لا أحد يعرف لماذا سُمِّي هذا الوادي، الذي يشكل مجرى جدول ماء قراح لا أطيب منه ولا أحلى قبل أن تداهم بلادنا أفاعي مجاري المياه الآسنة ووحوش محطات التنقية والغيلان الإسمنيتة التي يشبه زحفها زحف التماسيح عندما تشم رائحة الدماء، بوادي "خريسان" وهي تسمية متوارثة ربما تعود لأجدادنا الآراميين الأوائل، الذين يقع مرقد ملكهم العظيم "حَدَدْ" الذي حارب اليهود قبل نحو ثلاثة آلاف عام، فوق تلة ناهدة تطل على هذا المشهد، الذي كان سيل الزرقاء يزيده جمالاً، من الناحية الغربية الجنوبية.
عند نهاية "وادي خريسان"، الذي كان ملكاً لأهلي من منبع جدوله الجميل وحتى مصبه، تسببت الينابيع الجانبية مع الزمن وطول الوقت في انهيار كتلتين صخريتين جهمتين زاد انهيارهما المكان وحشة وبخاصة في الليالي المظلمة عندما يختلط خرير المياه بنقيق الضفادع وحفيف أوراق الدُّفلى والصَّفصاف والحلفاء والقصب المتداخل مع "عْزوق" العليق البري الجميل الرائحة النفاثة وأصوات طيور البوم التي تلاحق طرائدها من الخفافيش والفئران الكثيرة في هذه المنطقة. غابت الشمس باكراً في ذلك المساء الخريفي الحزين... وما أن اقترب ذلك الخَيَّال، الذي كان قبل ساعات يملأ المضارب التي تتوسط سهلاً يجاور طواحين عدوان مراجل وزمجرات، من نهاية خريسان عند الانهدام الصخري الكبير حيث تتداخل أشجار العليق الشوكي الأسود مع قصب "الدَّرْمك" مع أشجار الصفصاف التي أفقدها اقتراب فصل الشتاء جذلها المغناج مع أشجار الدفلى التي غادرها نوارها المتعدد الألوان، حتى شعر برهبة شديدة وللتغطية على وجيب قلبه أخذ يدندن بحداءٍ خافت كحداء المسافر في الصحراء ليلاً الذي بدل أن يلوذ بالصمت ليبعد عن نفسه قطَّاع الطرق والضباع وهوام الأرض يأخذ يغني بصوت مرتجف مخنوق كي لا يسمع الضربات الداخلية الشديدة التي تهز صدره.أطلقت بومة، تطارد أحد خفافيش الليل، صرخة مجلجلة قوية تردد صداها في الكهوف المتراصة الصغيرة التي تطل على الوادي من فوق الانهدام الصخري... ارتعش جسم فارس الليل واستبد به خوف شديد فأطلق استغاثة كصرخة الرعب قائلاً: "يا الله"... فتردد الصدى: "يا الله... يا الله... يا الله"... فتنحنح الفارس بما يشبه السعال... فتنحنح "فيل خريسان" ألف نحنحة... لكز الفارس بمهماز حذائه خاصرة الحصان الذي يزيده اللجام المشدود تشنجاً... فقفز الحصان عالياً وهو يطلق صهيلاً مدوياً فسقط الفارس على الأرض وولَّى الحصان هارباً في دغشة الليل.انعقد لسان الفارس... حاول أن ينهض لكن "فيل خريسان" الذي كان حصاناً يملأ مضيق الوادي صهيلاً وعربدة وتحول إلى ما يشبه الاخطبوط العملاق منعه من القيام... صرخ الفارس صرخة مدوية... ثم أخذ يستغيث: "فيل خريسان... فيل خريسان" وأجاب فيل خريسان بترديد نداء الاستغاثة ألف مرة.استمر الفارس بالولولة والاستغاثة و"فيل خريسان" يردد ما يقوله ليس مرة واحدة وإنما ألف مرة... سمع "النواطير" الذين كانوا يأوون إلى "عرازيل" عند رأس النبع الاستغاثات والولولات التي يتردد صداها في تجاويف الانهدام الصخري وانطلقوا هرولة على الطريق الضيق الذي يحاذي مجرى الوادي فالتقوا بطريقهم الحصان الخِنْذيذ الذي كان يستمتع بقضم نباتات الذرة المحاذية للطريق... ركضوا ثم ركضوا نحو مصدر الاستغاثات فلم يجدوا فارساً بل وجدوا إنساناً منهاراً وفي وضعية نصف إغماءة... وكان يقول لنفسه بعد كل استغاثة: "فيل خريسان... فيل خريسان... فيل خريسان".