الدهشة التي تصيبنا أحيانا ونحن نقرأ عملا روائيا متخيلا سببها الخروج من واقعية الحدث الى اقترابه من حدود اللاممكن. وهي دهشة يفشل الواقع في تجسيدها غالبا ونحن نتابع أحداثه، حتى الغرائبي منها، لبقاء الواقع دائما رهن حدود الممكن. واللجوء الى الواقع المجرد جعل الكتابة الروائية تقع تحت وطأة التسجيل الرتيب للحدث والاضافة الوحيدة للروائي هي تسمية الشخوص في العمل والسير بالكتابة الروائية بما يشبه الوصف الاعلامي أو الصحفي للحدث. وفي حالات كتابية كهذه يخرج القارئ من دائرة العمل الكلي ليقف متفرجا وشاهدا على أحداث تسير بخط درامي وحيد تفشل في اثارته كتابة موازية له.

Ad

استهسل الكتاب الكتابة الروائية كمنتج ثقافي تحت تأثير البيئة الاعلامية المحيطة بالكاتب وتحديدا العمل الدرامي التلفزيوني الذي فشل في الخروج عن نمطية سائدة في الحكي والتكرار الممل والاحتماء بواقعية هي أدنى درجة من الواقع وافتقار تام للخيال. بالتأكيد هناك شواذ لهذه القاعدة والشواذ هي الأعمال المميزة والنادرة سواء على المستوى الروائي أو الدرامي. والمحزن هو أن يكون السائد هو التافه في المجالين، حين يتفوق الواقع على العمل الروائي يفقد الروائي دهشته ولكن الواقع يقدم لنا أيضا دهشة خيالية لا يقدمها كثير من الأعمال من الروائية.

احدى قصص هذا الواقع والتي ربما يعجز عنها المتخيل الروائي ما حدث في مدينة أميركية في شهر أكتوبر الماضي، حين اشترت احدى السيدات صندوقا يحتوي على كماليات تستخدم للديكور الخاص بأعياد "الهالوين"، عادت به الى البيت وفتحت الصندوق لتجد رسالة صغيرة كتبت بانكليزية فقيرة ولكنها تحمل رعبا يكفي ليضج به البيت الوديع الذي ستزينه، اذا جاز التعبير، المرأة ليبدو مثيرا للرعب احتفالا بالمناسبة. قرأت المرأة الورقة لتجد فيها استغاثة امرأة من الصين تطلب ممن يشتري هذا الصندوق أن ينقذها ومن معها من العبودية الجديدة لأصحاب المصانع التي يعملون فيها.

قررت المرأة الأميركية ألا تتجاهل الرسالة وأن تذهب بها الى أبعد مدى مؤمنة بأن الاستغاثة كانت جادة. أخذت المرأة قصاصة الورق واتجهت للمنظمات الانسانية لينتهي الأمر قبل أيام باكتشاف ما لم تصدقه المرأة أو العاملون في مجال حقوق الانسان. فالمصنع الذي أنتج صندوق ديكور الهالوين لم يكن سوى معسكر يعمل فيه أكثر من مئة وخمسين ألف عامل وعاملة تحت أوضاع بائسة وحراسة مشددة وأجر يصل الى دولار واحد في الشهر لعمل يمتد خمس عشرة ساعة يوميا. تم ابلاغ الجهات الصينية التي لم تكتشف ما يحدث هناك الا بذات الصدفة التي اكتشفت المرأة الأميركية فيها ورقة الاستغاثة.

أوردت هذه القصة التي لم يكتبها روائي يبحث لها عن شبيه في خياله ولا يجد. ويستطيع القارئ أن يدرس الأبعاد النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمرأة المستغيثة والمرأة المغيثة. فما نتصوره عملا خلاقا لمجرد أنه عمل واقعي هو أقل درجة بكثير من الواقع. الروايات التي لا أستطيع أن أكمل منها أكثر من خمسين صفحة هي هذه الروايات التي تقع في ذيل الواقع. أضف الى ذلك ضعف الحرفة الروائية وانعدام الموهبة. وسبب عدم الكتابة عنها أو مناقشتها هو انعدام ما يمكن أن نتفق عليه حولها فضلا عما سنختلف حوله، وانتقادنا لعمل ما لا يعني عدم جديته وانما كونه عملا يستحق أن نختلف عليه.