عرضت صفحة شبكة التواصل الاجتماعي VKontakte صورتَين للشاب جوهر تسارناييف، المشتبه في تورطه في تفجير بوسطن: الأولى صورة رسمها لنفسه بالأبيض والأسود ويظهر فيها فخوراً وطموحاً، أما الثانية فتُظهره وهو يعانق صديقاً له فيما كانا جالسين إلى طاولة مطبخ، وقد بدوا فيها كأي مراهقَين عاديين سعيدَين.

Ad

المعلومات المتوافرة عن حياته قليلة: وُلد في 22 يوليو، غير متزوج. اللغات: الروسية، الإنكليزية، والشيشانية. التعليم: المدرسة الأولى في مدينة محج قلعة (1999- 2001)، مدرسة Cambridge and Latin School في بوسطن (2011). الديانة: مسلم. الهدف الأهم في الحياة: بناء حياة مهنية وكسب المال.

كان هذا الشاب يقيم في بوسطن، إلا أنه عاش في عالم مختلف تماماً على شبكة الإنترنت. فقد حملت صفحته وصلات عدة إلى مواقع باللغة الروسية يستخدمها الكثير من الشبان الإسلاميين المتطرفين. محور اهتمامه: "كل شيء يرتبط بالشيشان"، "الشيشانيين"، "المساجد"، و"الإسلام"، فضلاً عن أمر يُدعى "منظمة الشر"، التي تصف نفسها بأنها "مجلة من التعليقات الساخرة لتهزأ بأصدقائك". ويناقش المشاركون في هذه المجموعة، التي تتألف بمعظمها من سلفيين متشددين من أنحاء روسيا المختلفة، مواضيع يواجهها المسلمون هناك خلال حياتهم اليومية، من غياب المساجد في سيبيريا أو روسيا الأوروبية إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث في مناطق من البلد يُعتبر الإسلام فيها بارزاً، ولكن هل يكشف هذا حقاً الأسباب التي جعلت جوهر وأخاه الأكبر تيمورلنك (قُتل خلال تبادل لإطلاق النار مع الشرطة) يرغبان في تدمير حياة أهل بوسطن؟

أخبرتني غولنارا روستانوفا، مدافعة عن حقوق المسلمين السلفيين في داغستان: "ثمة أسباب عدة تدفع بالمسلمين إلى الشعور بالحقد تجاه الولايات المتحدة. يقتل الأميركيون المسلمين في أفغانستان والعراق. وقد يشكل هذا حافزاً لمثل هؤلاء الشبان".

يبدو أن عائلة الأخوين تسارناييف عاشت مدة من الزمن في جمهورية قرغيزستان في وسط آسيا، لكنها عادت لاحقاً إلى شمال القوقاز لتستقر في داغستان، جمهورية تعد نحو 3 ملايين نسمة تحد الشيشان. ومن ثم هاجرت العائلة إلى الولايات المتحدة عام 2002. حتى وقت ليس ببعيد، كانت داغستان تنعم بسلام نسبي، لكن الأوضاع تبدلت بعد أن خاضت الميليشيات الشيشانية حربَين كارثيتَين للاستقلال عن روسيا: الأولى بين عامَي 1994 و1996، والثانية بدأت عام 1999.

وما يزيد الطين بلّة واقع أن مسلمي المنطقة لا يحاربون موسكو فحسب، ففي حالات كثيرة، بدؤوا يقتتلون في ما بينهم، ومع بروز السلفية المتشددة في المنطقة، زاد الشرخ بين أتباعها والسلفيين الأكثر اعتدالاً الذين يشكلون تقليدياً جزءاً كبيراً من السكان المسلمين المحليين.

بدأت وتيرة الحرب في هذه المنطقة تتسارع، فتحصد العمليات الخاصة التي تنفذها قوى الأمن الروسية، فضلاً عن الاعتداءات الإرهابية التي يقوم بها الإسلاميون الأصوليون، عشرات الأرواح. فخلال الأشهر الأربعة الأولى من هذه السنة وحدها، سقط 67 شخصا ضحية الاعتداءات الإرهابية في داغستان، إلا أن وسائل الإعلام قلما تذكر حصيلة الضحايا. فلا يأبه الروس بحركة التمرد إلا عندما يهاجم الانتحاريون قطار أنفاق أو مطاراً في موسكو. وعندما يحدث ذلك، يحض كل الخبراء الكرملين على تحليل الأسباب التي تجعل جهاد المجتمع السلفي يتواصل في شمال القوقاز. توضح تاتيانا لوكشينا، مديرة مكتب منظمة مراقبة حقوق الإنسان في موسكو: "نعد تقارير عن ضحايا، حوادث اختفاء، وعمليات إعدام من دون محاكمة، وخطف، وتعذيب تحدث في أنحاء شمال القوقاز المختلفة. إلا أن الناس سئموا هذه الأخبار". وتضيف: "يثير اعتداء إرهابي وقع في منطقة بعيدة عن روسيا، مثل بوسطن، اهتمام الروس أكثر مما يحدث في جنوب بلدهم".

أصابت لوكشينا في قولها، أغطي الاضطرابات في شمال القوقاز منذ 13 سنة، أي مع اشتعال حرب الشيشان الثانية في المنطقة. فتتبعت تبني شبان مسلمين في الجمهوريات المحاذية للشيشان النزعة المتطرفة، وبدؤوا يتحدثون عن إنشاء دولة مستقلة تطبق الشريعة الإسلامية تُدعى "إمارة القوقاز".

ما زلت أذكر الجهد الذي بذلته لأقنع المحررين كي يسمحوا لي بتغطية مقتل زميلتي وصديقتي نتاليا إستيميروفا، ناشطة بارزة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. قُتلت إستيميروفا رمياً بالرصاص في الشيشان، إلا أن هوية الفاعلين لا تزال مجهولة. سافر بعض الصحافيين إلى غروزني لحضور مراسم الدفن، وشعرت بالأسف لرؤية مدى ضآلة الحضور، لكن الغرب ليس الوحيد الذي فَقَدَ الاهتمام في حروب القوقاز المحلية، فقبل بضع سنوات، أتذكر أن بعض المحررين في محطة إذاعية روسية سألوني لمَ تكبدتُ عناء إجراء مقابلة مع الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، القائد الأوسع نفوذاً في شمال القوقاز. قالوا لي: "لمَ تعودين دوماً إلى شمال القوقاز؟". فقد أظهرت أبحاثهم في مجال التسويق أن 13% فقط من مستمعيهم أظهروا اهتماما بأخبار تلك المنطقة.

خلال نهاية الأسبوع الماضي، أفاد مراقبون من منظم Memorial للدفاع عن حقوق الإنسان أن قصفاً بالدبابات والمدفعية استهدف منطقة خارج منطقة غيمري (4 آلاف نسمة) في داغستان، فترك مئات الناس مع أطفالهم منازلهم وهربوا إلى بلدة مجاورة تُدعى تمرواري، حيث امتلأت المنازل والشقق إلى أقصى حد، حتى إن الرجال ناموا في سياراتهم أو في المساجد.

طوال أسابيع تنفذ الشرطة وأجهزة الأمن الروسية ما تعتبره "عملية خاصة" ضد ميليشيا في منطقة غيمري، فأدى هذا القتال إلى تهجير أكثر من ألفَي شخص من دون ملابسهم، أو مقتنياتهم، أو حتى طعام. رغم ذلك، لم تولِ الصحف المحلية هذه الأزمة تغطية تُذكر، فكم بالأحرى وسائل الإعلام في موسكو؟ ذكر أحد اللاجئين ويُدعى نابيسات محمدوفا: "نُعامَل، نحن مسلمي داغستان، كما لو أننا لسنا مواطنين روسيين. تتحدث كل الصحف عن الاعتداء الإرهابي في بوسطن". سألني ألكسي فنديكتوف، محرر إذاعة Ekho Moskvy، خلال مقابلة معه: "غيمري؟ هل هذه في أرمينيا؟". يوضح أن ما يتكرر يومياً، حتى لو كان أعمالاً إرهابية، يُتعب الناس ويجعلهم لا مبالين: "تشبه داغستان اليوم أيرلندا خلال فترة الاضطرابات. فخلال تلك الحقبة، لم يكن وقوع انفجار في محطة للوقود يُعتبر خبراً مهماً". كذلك أشار إلى أن الكثير من القوميين الروس يميلون إلى اعتبار داغستان والشيشان دولتَين أجنبيتَين. واشتهروا بمطالبتهم الكرملين ببناء جدار لفصل المنطقة عن سائر أجزاء روسيا.

لكن الأخبار عن أن إرهابيي بوسطن شيشانيان ملأت الإنترنت، فقد ذكر أحدهم، مشيراً إلى ادعاء جوهر تسارناييف أنه يرغب في بناء مسيرة مهنية مربحة: "كيف يُعقل ذلك؟ هل هم نوع من الإسلاميين الجدد البورجوازيين؟ لا شك أن هذه تركيبة مثيرة للاهتمام. إذن، يؤمنان بالله والمال في آن واحد؟ لا يولي المؤمنون الحقيقيون الحياة المهنية والمال اهتماماً كبيراً". وعلق آخر: "يدفع الأميركيون ثمن دعمهم المقاتلين من أجل الحرية في الشيشان. كل هذا زائف. يختار الأميركيون شخصاً من مجموعة قد تشكل خطراً (لاجئ أو إسلامي) ويعدون الظروف الملائمة لاعتقاله"، لكنّ قليلين تقبلوا على ما يبدو الخلاصة الواضحة: أن صدمات الحرب الطويلة في شمال القوقاز بدأت تصل اليوم إلى الولايات المتحدة.

Anna Nemtsova