توالت الأحاديث وتكاثرت الشبهات حول رغبة الفصيل الحاكم في السيطرة على دار الكتب والوثائق القومية والتحكم في ذاكرة مصر الثقافية ومحوها إن أرادت، لذا كانت صرخات المثقفين والفنانين ودعوتهم إلى وضع الدار تحت الحماية الدولية. كذلك أطلقوا في بيانهم الصادر أخيراً نداء للقوات المسلحة والشعب المصري والمؤسسات الدولية المختصة لسرعة إنقاذ تاريخ مصر، بتشكيل لجنة محايدة ومتخصصة للإشراف على دار الكتب والوثائق المصرية لما تحويه من وثائق سيادية تمس الأمن القومي المصري، مشيرين إلى أن تصرفات الوزير الجديد وإقدامه على إقالة عدد من رؤساء القطاعات في الدار تحمل دلائل عن وجود {خطة واضحة وممنهجة للاستيلاء على تاريخ مصر}.

Ad

وذكر البيان مثالاً بالوثائق السيادية الموجودة في الدار مثل وثائق ترسيم الحدود المصرية ووثائق الأملاك اليهودية والوثائق الخاصة بتاريخ جماعة {الإخوان المسلمين} منذ تأسيسها والرسومات الهندسية الخاصة بالمباني الأثرية المصرية، وطالب المثقفون الجميع بسرعة التحرك لضمان عدم المساس بمقتنيات الدار، وبتفعيل قانون حماية المخطوطات والوثائق.

وقال رئيس دار الكتب والوثائق القومية السابق الدكتور زين عبد الهادي إن الدار تتعرض لمخطط إخواني يستهدف تجريدها من الكنوز الحقيقية النادرة التي تحويها، مضيفاً أنها تضم أكثر من 60 ألف مخطوطة إسلامية غير موجودة في الدول العربية والإسلامية كافة، إضافة إلى أربعة آلاف حافظة تتناول جميع الوثائق الوطنية، فضلا عن وثائق المخابرات المصرية والوثائق التاريخية المهمة، وحوالى 100 مليون وثيقة نادرة.

وأكد زين عبد الهادي أن الثقافة المصرية ضاربة بجذورها في عمق الشخصية المصرية، {ونحن لا نخاف على الهوية المصرية من محاولة تغييرها}، مشيرا إلى أن {ما حدث من عنف أمام وزارة الثقافة من المتأسلمين تجربة للثلاثين من يونيو، ولن يردعنا ذلك أو يخيفنا، نحن نؤمن بالسلام الاجتماعي ونرغب فيه}.

وقال الدكتور مدير التوثيق الأثري في المجلس الأعلى للآثار محمد الششتاوي إن الأوضاع الحالية للوثائق والمخطوطات تعرضها للسرقة، وأضاف أن 99% من مخطوطات مصر موجودة في دار الكتب، مطالباً بإشراف خبراء على المخطوطات والوثائق وتنظيم الضبطية القضائية للمخطوطات، ووضع تعريف أدق للمخطوط يمنع استخدام اتهامات ضد سياسيين، في حين أعرب الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة عن حزنه الشديد لما حدث أمام وزارة الثقافة من الاعتداء على قامات الثقافة والمعتصمين المثقفين، قائلاً في تصريحات صحافية إن موقف {الإخوان المسلمين} من الثقافة سلبي إلى حد كبير، وإنهم يصنفون المثقفين على اعتبارات دينية.

أرشيف عميق

دار الوثائق القومية إحدى أهم دور الأرشيف في العالم لاحتوائها على كم هائل من المصادر الوثائقية، ووثائق باللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنسية والألمانية، فضلاً عن عدد من الوثائق باللغة الأمهرية. وتغطي هذه المجموعات الفترة من العصور الفاطمي والأيوبي والمملوكي، مروراً بالعصر العثماني، ووصولاً إلى القرنين التاسع عشر والعشرين.  

أنشأت دار الوثائق في القاهرة عام 1828، وهي إحدى أقدم دور الأرشيف في العالم، فقد أنشأ الأرشيف الوطني الفرنسي عام 1790 ودار المحفوظات العامة في لندن عام 1798، ويرجع تاريخ دار الوثائق المصرية إلى بدايات القرن التاسع عشر، عندما أنشأ محمد علي أول مكان لحفظ سجلات الدولة الرسمية في القلعة، وذلك في عام 1828، وقد أطلق عليه آنذاك «الدفتر خانة»، وكان هدفه جمع نتاج أنشطة أجهزة الدولة وحفظه، والذي صار بمضي الوقت تراثاً قومياً.

تولى راغب أفندي منصب أول رئيس للدفتر خانة، فيما وضع الخواجا يوحنا (كاتب المصروفات) لائحتها الداخلية، واستمرت الدفتر خانة في أداء دورها في حفظ السجلات الحكومية بعد انتهاء الحاجة إليها إلى أن ضاق مبناها، ما اضطر محمد علي إلى إنشاء فروع لها في المصالح الحكومية والأقاليم. كذلك عهد إلى خبير فرنسي بتطوير التشريع الخاص بالدفتر خانة مع الاستفادة من النظم والتشريعات التي تنظم عمل الأرشيف القومي الفرنسي، وظل حال الدفتر خانة المصرية على هذا التنظيم الذي وضعه محمد علي باشا (1805 – 1848) إلى أن تولى الخديوي إسماعيل حكم مصر (1863-1879)، وألغى فروعها في الأقاليم وأمر بأن تودع السجلات والوثائق في الدفتر خانة الأصلية في القلعة. وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني (1892-1914) صدرت لائحة جديدة اشتملت على 24 مادة لتنظيم طرق تسليم المحفوظات وتسلّمها، وصار اسم الدفتر خانة «دار المحفوظات العمومية» وظل مقرها في القلعة.

 خلال فترة حكم الملك فؤاد الأول

(1917 - 1936)، كان بعض المصطلحات قد تغير وتحولت كلمة «نظارة» إلى «وزارة»، ولم تكن الدار تُعنى بنشر الوثائق مثل الأرشيفات العالمية، فعهد الملك فؤاد إلى المستشرق الفرنسي دينيه بمهمة فحص الوثائق التركية وتنظيمها تمهيداً لوضعها بين يدي الباحثين والمؤرخين. وفي عام 1932، أنشأ الملك «قسم المحفوظات التاريخية» في قصر عابدين (بناء على توصية دينية)، وكان القسم بمثابة الأرشيف القومي المصري الحديث، الذي يعمل على فهرسة الوثائق وتصنيفها. ومع قيام ثورة يوليو 1952، لم تعد محفوظات عابدين تحقق ما ينشده رجال الثورة، خصوصاً في ما يخص أسرة محمد علي، التي كانت موضوعاً رئيساً في محفوظات قصر عابدين، وبات من الضروري إعادة كتابة تاريخ هذه الأسرة، فكان هذا هو الدافع من وراء إنشاء دار الوثائق القومية فأنشأت بموجب القانون 356 لسنة 1954، وحدد وظيفتها في جمع وحفظ الوثائق. ثم انتقلت من قصر عابدين إلى مبنى خصص لها في القلعة في القاهرة (1969)، ثم إلى موقعها الحالي في كورنيش النيل في عام 1990.

 لاحقاً صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 176 لسنة 1993 بشأن إنشاء هيئة مستقلة تضم دار الكتب والوثائق القومية وفصلهما عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفي عام 1997، أصدر رئيس الجمهورية قرار رقم 472 لسنة 1979 بشأن «المحافظة على الوثائق الرسمية للدولة وأسلوب نشرها واستعمالها»، ونص على أن تحتفظ الجهات الحكومية بوثائقها التي تنتجها لفترة 15 عاماً، ثم تنقل بعدها إلى دار الوثائق التاريخية، وبعد إيداعها في الدار تظل محتفظة بسريتها لمدة 15 عاماً أخرى، ثم يُفرج عنها بعد ذلك للاطلاع عليها.