هل تغرق مصر في الظلام؟
لا حديث في مصر اليوم يعلو على الحديث عن "انقطاع الكهرباء". البلد يغرق في الظلام، والمصريون كعادتهم يستثمرون الحدث في إنتاج المزيد من السخرية والنكات. يربط المصريون بين مشروع النهضة المزعوم، الذي أعلنته جماعة "الإخوان المسلمين" قبل أن تصل إلى الحكم، والظلام الذي آلت إليه الأوضاع، في جملة واحدة تقول: "ظلام النهضة"، وربما تقول أيضاً: "نهضة الظلام"."مصر تغرق في الظلام" ليست مجرد عبارة مجازية تشير إلى الواقع الذي أصبح عليه هذا البلد بعد نحو عام من حكم "الإخوان المسلمين"، ولكنها أيضاً عبارة واقعية توضح الحال التي وصل إليها المصريون بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء.
يؤدي الانقطاع المتكرر للكهرباء في مصر إلى كوارث ووفيات وأزمات صحية ومشاجرات وتظاهرات وقطع طرق وارتباك كبير، خصوصاً أنه يتزامن مع موجة حارة، تحتاج فيها كافة الأسر إلى تشغيل أدوات كهربائية يمكنها أن تلطف حرارة الجو.لو كتبت عبارة "انقطاع الكهرباء" على محرك البحث "غوغل"، لوجدت مئات آلاف الروابط، التي تمثل عناوين تأخذك إلى موضوعات، يتحدث أغلبها عن انقطاع الكهرباء في مصر تحديداً.لم يحدث في مصر مثل هذا الانقطاع المتكرر للكهرباء في أيام حسني مبارك، ولا حتى في زمن حرب أكتوبر، ولا أيضاً في أعقاب هزيمة 1967. القاهرة مدينة ساهرة، لا تعرف النوم، وشوارعها دائماً مضاءة، وكان الإهمال يبقيها مضاءة حتى في النهار. اليوم القاهرة تغرق في الظلام، أهم الشوارع وأكثرها اكتظاظاً بالحركة وانشغالاً بالتجارة تظلم أحياناً، وتتقلص فيها الحركة عنوة، ويهيمن عليها الخوف.تقول عناوين الموضوعات التي سيقودك إليها "غوغل" كلاماً خطيراً مثل: "انقطاع الكهرباء يفجر الغضب"، و"ارتفاع معدلات السرقة بسبب انقطاع الكهرباء"، و"انتشار البلطجة بسبب قطع الكهرباء".لكن بعض العناوين تشير إلى كوارث إنسانية، خاصة حينما تتحدث عن وفيات أطفال الحضانات، أو تلف الأدوية، أو توقف أجهزة الأشعة عن العمل، أو حبس مرضى في مصاعد تعطلت بسبب انقطاع الكهرباء المفاجئ.هناك أيضاً عناوين ضاحكة مثل: "عشر فوائد لانقطاع الكهرباء"، و"كيف تستفيد من انقطاع الكهرباء؟"، و"جدول انقطاعات الكهرباء". وهناك بالطبع بعض النكات؛ منها مثلاً صورة لكورنيش الإسكندرية يتلألأ تحت الأضواء الساحرة، وأخرى للكورنيش غارقاً في ظلام دامس، ومكتوب على الصورة الأولى "قبل النهضة"، وعلى الثانية "بعد النهضة". هناك أيضاً نكتة تقول إن "الشعب المصري سيظل يذكر مرسي باعتباره الرئيس الذي تحول الموبايل في عهده من وسيلة اتصال إلى وسيلة إضاءة". وهناك نكتة أخرى تطالب المصريين بعدم الرد على تحية "صباح الخير" بمقولة "صباح النور"... "لأن النور مقطوع".ستجد أيضاً بعض العناوين المنتهزة، التي حاولت استثمار الحدث لتحقيق مكاسب؛ مثل: "اشتر مولداً كهربائياً للتغلب على انقطاع الكهرباء"، و"جهاز جديد يوفر الاتصال بالإنترنت مع انقطاع الكهرباء".هناك كذلك بعض العناوين التي تتحدث عن ردود الفعل؛ مثل: "تظاهرة حاشدة احتجاجاً على قطع الكهرباء"، و"بلاغات ضد مرسي بسبب انقطاع الكهرباء"، و"أهالي بلدة يقطعون الطريق الزراعي مطالبين بعودة الكهرباء".هناك أيضاً خبر تفسيري ينسب لقيادي بوزارة الكهرباء قوله إن "سبب انقطاع الكهرباء يرجع إلى زيادة الاستهلاك ونفاد الوقود"، وهناك خبر كوميدي ينسب إلى قيادي في جماعة "الإخوان المسلمين" قوله إنه اتفق مع أسرته على "عدم تشغيل الأجهزة الكهربائية لتوفير الكهرباء"، وهناك خبر تخديري لقيادي في الحكومة يقول إن "مشكلة انقطاع الكهرباء ستحل قريباً".لكن واحداً من آلاف الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام على هامش أزمة الظلام المصرية هو ذلك الخبر الذي نسب إلى قيادي في حزب "الحرية والعدالة" الحاكم قوله إن "قطر سترسل إلى مصر شحنة غاز طبيعي الأسبوع المقبل لمواجهة نقص الوقود".يعبر الإظلام الراهن في مصر عن حالة سياسية واقتصادية تسيطر على البلاد، ويعزز انفلات الأمن، ويحصر آمال الجمهور في استعادة الكهرباء، أي عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بدلاً من التفكير في طريقة للخروج من المأزق الدائم. وتضرب الطريقة التي تعامل بها المصريون مع الانقطاع المادي للكهرباء مثلاً على الطريقة التي يتعاملون بها مع حالة الإظلام المعنوي التي فرضها النظام الحالي على البلاد.لا يمكن التعويل أبداً على ذكاء النظام المصري الحالي؛ فهو الذي أضاع عشرات الفرص على البلاد، وأخذها إلى حافة الانهيار، عبر سياسات متضاربة ومرتبكة وقرارات عشوائية، وهو الذي لم يبد أي اهتمام باختيار الكفاءات لتولي المناصب، مفضلاً السعي إلى "الأخونة" مهما كان ذلك مكلفاً ومهما جلب من خسائر.لذلك، فإن النظام لم يستطع مثلاً أن يشخص أزمة انقطاع الكهرباء بشكل واضح، ولا أن يجد حلاً لها، وهو الأمر الذي تسبب في احتقان الجمهور بغضب شديد ستكون له عواقب وخيمة.يمنح الظلام المادي الذي تغرق فيه مصر راهناً، بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء، فرصة للبلد لاستخلاص العبر، واستشراف الخطر، وتحليل الأوضاع الكارثية الراهنة التي تنذر بأوخم العواقب، ومحاولة إيجاد أي فرصة يمكن من خلالها الخروج من النفق المعتم إلى رحابة الأمل.سيعرف المصريون أنهم يغرقون في ظلام سياسي واقتصادي وأمني وعسكري واجتماعي وثقافي على يد نظام بدا فاقداً لأي قدر من الكفاءة أو الوازع الأخلاقي.لم يعرف المصريون حتى اللحظة الراهنة من قتل أبناءهم الجنود على حدود فلسطين في رمضان من العام الماضي، رغم أن الرئيس تعهد بقيادة الحملة العسكرية في سيناء بنفسه، وقطع الوعود بجلب القتلة والقصاص منهم.بل لم يعرف المصريون من خطف أبناءهم الجنود السبعة الذين أُفرج عنهم الأسبوع الماضي، وماذا كان مقابل الإفراج عنهم، ولماذا حرص الرئيس على المساواة بين الخاطفين والمخطوفين، حين طالب قوات الأمن بالحرص على أرواح كل منهم.لا يعرف المصريون ما طبيعة العلاقة بين جماعة الرئيس والخاطفين، وبين الخاطفين و"حماس"، ولماذا تظل الأنفاق مفتوحة مهددة الأمن القومي للبلد، ولماذا يرفض الرئيس غلقها.لا يعرف المصريون ماذا وراء مشروع تنمية إقليم قناة السويس، الذي يعزل الإقليم عن سلطة الدولة، ويضعه تحت سلطة هيئة لا تخضع لأي نوع من أنواع المراجعة أو المحاسبة. لا يعرف المصريون من يحكم مصر حقيقة؛ وما إذا كان الرئيس، أم المرشد، أم مكتب الإرشاد. ولا يعرفون من الذي يسيطر على سيناء، ولا دور "حماس" في "ثورة يناير".لا يعرف المصريون ما خطة الرئيس لمواجهة الأزمات التي تغرق فيها البلاد، وباستثناء الحصول على قروض بفائدة عالية من قطر، أو انتظار شحنات غاز منها لتعويض نقص الوقود وحل أزمة الكهرباء، فلا توجد أي ملامح لأي خطة.يرد المصريون على انقطاع الكهرباء بوقفات احتجاجية، وبلاغات، وقطع طرق، وتهديدات بالتوقف عن دفع الفواتير وإعلان العصيان المدني وبسخرية ونكات، لكن تلك الوسائل كلها لن تكون كافية للرد على عملية إظلام أكثر بشاعة وتغولاً يمارسها النظام ضدهم.مصر تغرق في الظلام بشكل لم تعرفه حتى في أسوأ عصور الظلام، وهو ظلام إما أن يأخذها إلى هوة عميقة عفنة، وإما ان يكون ذروة السواد الذي يسبق انبلاج الفجر.* كاتب مصري