«أفندي الغلغول» لنادر سراج... بيروت بين زمنيها العثماني والفرنسي

نشر في 10-02-2013 | 00:01
آخر تحديث 10-02-2013 | 00:01
صدر حديثاً عن «مرصد بيروت الحضري» كتاب «أفندي الغلغول 1854 - 1940 - شاهد على تحولات بيروت خلال قرن». حمل الغلاف رسماً للأفندي البيروتي هاشم علي الجمال الذي جعل نموذجاً لذلك الزمن والنمط من الحياة. الكتاب سيرة حياة وجيه بيروتي في سيرة المدينة نفسها بأنماطها وتحولاتها كافة من المرحلة العثمانية حتى منتصف القرن العشرين في زمن الانتداب الفرنسي.
كتاب نادر سراج «أفندي الغلغول» جدير بالاهتمام. فبالإضافة إلى أنه مصقول وبورق فاخر وإخراج فني مميز، يرصد تحولات المدينة بين زمنين العثماني والفرنسي. ورصد زمني المدينة يكون من خلال شخصية «أفندي الغلغول» (الأرض ذات الشجر الكثيف) أو الشخصية البيروتية (هاشم الجمال) في سيرته، وهنا يجمع المؤلف بين بصيرة المؤرخ المدققة وبلاغة الراوي، مستعيداً نسيج الحياة اليومية بين بدايات حداثة المدينة وتحولاتها في سيرة الوجيه البيروتي، وفي شهادات الطبيب والصيدلي والضابط والقاضي والمهندس والموسيقي المعاصرين.

 يأخذنا الكتاب في رحلة ممتعة إلى أسواق بيروت العثمانية وأوقاتها وشوارعها، منذ كانت ضيعة على ساحل المتوسط إلى أن أصبحت مدينة عالمية.

يقرأ سراج في سيرة أفندي الغلغول، في المحلة المدينية أو الزقاق المديني وانفتاحه ثم زواله، الذي يولد في الحي المديني المعروف بالغلغول عند سور بيروت القديمة، فيشارك في شبابه في إنشاء جمعية المقاصد في بيروت، ويتبوأ مركز مدير المال في مدن كثيرة: صيدا، مرجعيون، حيفا، جبلة، عكار، الناصرة... ويصبح في كهولته رئيساً لبلدية صيدا، وتمتد نشاطات أولاده وأحفاده بين اسطنبول ودمشق وطرابلس الغرب وعُمان وعدن وفرنسا، رمزاً لصيرورة البلدة المتواضعة بيئة حضرية مزدهرة فمدينة عالمية. كذلك يعرض شواهد وأنسجة الإثبات والتغيير في ما بين الوثائق الشرعية الملكية ونهاياتها في القرن التاسع عشر، والصور الفوتوغرافية التي تتداخل معها في التاسع عشر، وتحل محلها في القرن العشرين.

هكذا يرسم سراج تحولات المدينة، مسلطاً الضوء على فصول من الإنجازات والتحولات في مطلع القرن العشرين، ومظهراً تأثيراتها في الانتقال الاجتماعي التدريجي نحو الحداثة، وما نجم عنها من تبعات ثقافية واجتماعية لافتة. والكلام المصوغ على ألسنة كل من هاشم علي الجمال، ووالده علي الجمال البيروتي، وبعض أبنائه وأحفاده، تجاوز مضامين سجلات المحاكم الشرعية، وتعدى حدود الفقرات والسطور والتواريخ والأشعار التي خلفها الحاج هاشم. فصيغ في إطار روايات متداخلة تضافرت أحداثها لرسم عالم الأب علي، وعالم الابن هشام، وعالم أبنائه في ثلاثة أجيال من عائلة الجمال.

تجربة متكاملة

يسأل سراج: «لماذا نكتب سيرة أفندي الغلغول؟» ويجيب: «هذه النصوص المؤتلفة في تجربة سردية متكاملة سعت قدر الإمكان إلى التفلت من الموروث التقليدي الحكائي وهي تشهد النور في كتاب موثق ينطلق في أسلوبه وفي مقاربته المادة التاريخية والاجتماعية من مواصفات السيرة الذاتية، لا بل المدينية الجماعية ليلامس فن السرد الروائي. والسيرة لا تقتصر على جمع الجزئيات المتناثرة لتشكيل «لوحة الحياة» العائدة لوجيه بيروتي عثماني عاش تحولات بيروت منذ منتصف القرن الثامن عشر وعلى مدى ثمانية عقود ولا تحمل بالضرورة بصمات الفرد الذي تنعقد حوله الأحداث بغض النظر عن حيثيته الاجتماعية ورتبته وتتماسك مفاصلها وتأتلف مضامينها وهي نصوص تستند إلى وقائع وأحداث وتعود إلى تواريخ وتستحضر إحصاءات وتروي حكايات الأيام الغابرة بحلوها ومرها وتكشف عن المسكوت عنه وتستنطق تفاصيل متوارية مملة ومبتذلة في نظر بعضنا ومشوقة وذات دلالة في نظر آخرين، ولكنها تبقى في نهاية المطاف نصاً سردياً مؤتلف البنى التركيبية يستظل بروح الجماعة وينضح بروحية كل من بطله وكاتبه وبالرغم من انشغاله برسم صورة عن تبدّلات الأحوال اللاحقة بفرد متميز من عائلة بيروتية معروفة».

نادر سراج في كتابة السيرة للشخص والحي والمدينة والثقافة منشغل أيضاً بإثنوغرافيا بيروت ولسانها وزمانها، ففي الكتاب معلومات كثيرة عن الألقاب في الزمن العثماني، إذ كان بطل الكتاب يحمل لقب «أفندي»، وعنوان هذا الفصل «الألقاب والكنايات... والجندرية منها». يقول الكاتب: «تحفل المذكرات ووثائق الأحوال الشخصية والوثائق الشرعية والمراسلات المثبتة في هذا الكتاب بنماذج حية عن الألقاب والكنايات التي كانت سائدة عصر ذاك. وللتذكير فالألقاب العثمانية أنواعها وترتيباتها، من بك وتكتب أيضاً بيك أو بيه إلى باشا إلى أفندي أو إلى خواجة (وكانت تطلق تحديداً على معلم المدرسة أو الطبيب أو كل من كان معتمراً عمامة)، كانت تسبغ على الأفراد المنتسبين إلى أعراق معينة أو الى أبناء الباشوات أو إلى كبار الضباط العسكريين أو إلى كبار موظفي السلطنة أو إلى أعضاء البعثات الأوروبية. وإذا كان بعض الناس يعتبر أن حملة الألقاب شديدة الحفاظ عليها لأنها عندهم عنوان مجدهم الموروث ومبعث ما لهم من حياتهم من رفعة شأن فإن الحاج هاشم (وشقيقيه وأبناءه بالطبع) التزم حمل الألقاب التي كان يكتسبها أو تسبغ عليه وفق طبيعة مهامه الوظيفية.

أفندي

من المعلوم أن لقب «أفندي» هو في الأساس كلمة عامية يونانية معناها «المولى والسيد»، أخذها الأتراك عن اليونان ووصلت إلينا عن طريق هؤلاء. وثمة من يعتبر أن الأصل كلمة لاتينية ولأنها جاءتنا عن طريق الأتراك ظن البعض أنها تركية أو فارسية ومعناها: الذي يقوم بالعمل بنفسه... المستقل بذاته. استعملها العثمانيون للرجل الذي يقرأ ويكتب ولقباً لبعض كبار الموظفين، وأطلقت على الأمراء الأتراك للدلالة على الاحترام. استخدمتها الفارسية عن التركية وما لبث بعض الأقطار العربية أن استخدمها لقباً كالسيد أو المولى ونطقها «أفندم» جواباً محترماً للنداء. وكان هذا اللقب عندنا تارة لقباً فخرياً يعطى بمرسوم وطوراً اسم علم يطلقه الأولاد على أبنائهم «أفندي» و{فندي».

في الخلاصة، يشير المؤلف إلى أن غاية الكتاب تمثلت في استنباش وقائع وأحداث وسرد حكايات مأخوذة لحميميات عائلية منقضية قد يصادفها المرء في سجل أكثر من عائلة مدينية، وبقدر ما تمثلت بالوثائق العائلية التي ترتدي أهمية، أياً كانت مضامينها أو لغتها أو مصدرها أو أوضاعها الحالية، فهي مهما غالب الاصفرار أطرافها، وذهب بعض حروفها، خير شاهد على تبدل الأحوال والظروف والسنن. وهي الثوابت المدونة والموثقة والوحيدة في مسار أيامنا المتبدلة. ويتمثل الكتاب ببعض النماذج العائلية الحميمة المحفوظة التي تتصدر بعض جدران أقرباء آل الجمال ومنازلهم. فتاريخية الوثائق المدونة هنا، وفي غير موضع من هذا المؤلف، لا تتعارض مع ماضوية المديات الزمنية التي تخبر عنها. والمعطيات التاريخية التي تنضح من المعلومات القليلة، الرسمية أو الشرعية المختزنة في صورتها الفوتوغرافية أو بين سطورها، تعني أن حدثية الوقائع التي تتوثق بالأبيض والأسود تشهد على حيوية الأفراد والجماعات في ما مضى وعبر سيرورتهم ومآل أحوالهم. وهي بهذا المعنى، نصاً وصورة، شواهد على تطوّر أحوال السلف ونماذج لحراكه الاجتماعي.

سيرة أفندي الغلغول هي سيرة لمدينة بيروت وتحولاتها وبدء توافد أنماط الحداثة إليها من الثياب والطربوش إلى الصور الفوتوغرافية والساعات والمهن والصحف وحتى الجمعيات مثل الماسونية.

back to top