حين زرت مدينة "شيكاغو" مع مجموعة من أدباء العالم، ضمن برنامج "الكتابة الإبداعية العالمي" الذي تتبناه جامعة "أيوا"، وقبل أن نذهب إلى الفندق الخاص بنا، وضمن برنامج الزيارة، قصدنا البيت الذي ولِد فيه الكاتب العالمي "أرنست همنغوي"، وعلى مقربة منه متحف "همنغوي". وهناك تلاقينا مع مجاميع من البشر، من كل الجنسيات، تأتي لزيارة البيت والمتحف للتعرف الى عالم الرجل الإنساني والإبداعي. ولحظتها استذكرت، المشوار الذي صحبت فيه الكاتب والصديق العزيز الأستاذ فاضل خلف في منطقة "المباركية"، حين كان يدلني على الأماكن التي كان يلتقي فيها بصديقه الشاعر فهد العسكر، وكيف أنه كان يشير الى مكان وآخر، ليقول: ربما كان البيت هنا. وكما في مناسبات أخرى كثيرة، دار في بالي: أين بلدي من تكريم أبنائه المبدعين والأدباء وحفظ تراثهم، خاصة أولئك الذين تركوا بصمة واضحة في سجل مسيرة الفكر والإبداع والثقافة في الكويت؟

Ad

مؤلم أن تخلو الكويت مطلقاً من أي متحف لأبنائها من المبدعين والمثقفين، فإقامة متحف باسم أديب في بيته، شيء خاص جداً، يغري الكثيرين لزيارة ذلك المكان والتعرف عن كثب الى حياة الأديب، والتمعن في مسيرته والإرث الحضاري الذي تركه خلفه.

إن قامة ثقافية شامخة كالأستاذ المرحوم عبدالله زكريا الأنصاري، وما تركه خلفه من إرث ثقافي يكاد يكون سجلاً حافلاً لواحدة من أهم المراحل الحافلة بأحداثها في تاريخ الكويت الحديث، وموقع بيته اللافت يستحق أن تلتفت الدولة إليه، وتكرمه وتكرم الثقافة الكويتية بالمحافظة على هذا البيت، وتحويله إلى متحف يجسد مسيرة الرجل ومسيرة الثقافة، ويكشف بالصور والكتابات المتنوعة مسيرته ومجموعة من زملائه، الذين كانوا على تواصل مع العلم والمعرفة والثقافة والإبداع، ووصل بأهله الى داخل الوطن وخارجه.

إن الأمم المتقدمة لتفخر بأبنائها وتضاهي بهم العالم في حياتهم وبعد مماتهم. وبالنظر إلى العولمة التي غزت العالم من أقصاه إلى أقصاه، والتشابه الإنساني الموجود في مسيرة مختلف الأمم، فقد باتت الأمم تسعى سعياً حثيثاً لتأكيد ذاتها بتميزها عبر الالتفات إلى تخليد رموزها الإبداعية والثقافية.

إنني أضيف صوتي إلى فكرة تحويل بيت الراحل سامي المنيس ليكون متحفاً مصغراً لمسيرة الديمقراطية في الكويت، بدءاً بعام 1752 حين وافق أهل الكويت على تنصيب آل الصباح الكرام حكاماً لهم، مروراً بقيام مجلس الشورى عام 1921، وإنشاء المجلس البلدي عام 1930، ومجالس المعارف 1936، والمجلس التشريعي الأول عام 1938، والمجلس التأسيسي للدستور عام 1962، وانتهاء بانتخابات مجالس الأمة المختلفة.

الأمر عينه، في تأسيس متاحف للشخصيات الأهم في مختلف مناحي الحياة، سياسياً وفكرياً وثقافياً وفنياً، ينطبق على تبني مرسم في بيت الفنان أيوب حسين، يحوي أهم أعماله، وتاريخاً موثقاً لمسيرة الحركة التشكيلية في الكويت، ومتحفاً آخر لمسيرة الصحافة في الكويت في بيت الراحل محمد مساعد الصالح، منذ أصدر الشيخ عبدالعزيز الرشيد مجلة الكويت عام 1928، وصولاً إلى وقتنا الراهن.

إن نشوء مدينة الكويت الأول عام 1613، وارتباطه بمسيرة العلم والمعرفة والثقافة منذ عام 1682، ليظهر بشكل جلي العلاقة الوثيقة بين أهل الكويت، وبين حب العلم والمعرفة، وبما يستحق إبرازه للعالم، وتوثيقه بطريقة عصرية مدروسة. وهذا الأمر يشمل مختلف نواحي الحياة، فالزائر اليوم لأي مدينة، إنما يبحث عن روح المدينة المتمثلة في خصوصيتها وتاريخها. وإذا كان المال يعدّ عائقاً في كثير من الدول، فإن دولة غنية مثل الكويت، يجب أن تغدق من مالها الكثير لتأكيد حضورها الإنساني الأجمل والأبقى، والتآريخ للمحطات الأهم في مسيرتها، بشكل مدروس ومتطور وعصري.