لم تسفر ما سُميت بحركات "الربيع العربي" عن تحسين للأوضاع الاقتصادية في البلدان العربية التي حدثت فيها كما كان مفترضاً، بل إن الأمر من الناحية الاقتصادية يبدو خريفياً، وظهرت بذور مواجهة بين أنصار المفهوم المدني للدولة وأنصار المفهوم الديني، ويبدو أن هذه المواجهة هي حدث الساعة في العالم العربي.

Ad

فمن تونس إلى ليبيا ومصر، إلى سورية والعراق واليمن ينشغل الناس بأنباء هذه المواجهة بين التيارين، وإذا حدث انشغال بأمور أخرى فإن هذه المواجهة تكمن خلف ذلك، ويندر أن ترى بلداً عربياً يخلو من بذور تلك المواجهة، سواء شهد تغييراً أم لم يشهد، حيث إن المجتمع منقسم بين الداعين إلى الدولة الدينية، والداعين إلى الدولة المدنية "وكل حزب بما لديهم فرحون"، ويسمع المرء شقاقاً بين هؤلاء وأولئك بما يوحي أنهم على وشك الدخول في حرب لا تبقي ولا تذر.  ولكن هل الصدام الذي وقع بين العلمانيين والدينيين في مناطق أخرى من العالم محتوم أن يتكرر في العالم العربي؟ ألا يملك هذا العالم العربي تراثاً دينياً يتوافق مع مستجدات العالم؟ إن دراسة التراث الفقهي الإسلامي يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة للتوافق مع مستجدات العالم، ويستغرب المرء من انصراف الفريقين عن دراسة هذا الفقه الذي يمتلك أسساً للتوافق بينهما، فقد قامت على أساسه دولة عاش في ظلها الناس راضين سعداء.  إن التأمل في "صحيفة المدينة" التي وضعها النبي الكريم حالما هاجر من مكة، ومسارعة النبي إلى وضع هذه الصحيفة دليل على وجوب الدولة في الإسلام، كما أن مبادرة الصحابة إلى انتخاب خليفة من بينهم بعد وفاة الرسول عليه السلام شيء آخر على هذا الوجوب، بالإضافة إلى نصوص من الحديث النبوي الشريف نقول: إن التأمل في "صحيفة المدينة" التي كانت اتفاقاً بين المهاجرين واليهود والوثنيين دليل على تعايش أصحاب العقائد المختلفة في الدولة الإسلامية.

وهذا الاتفاق هو أول اتفاق سياسي بين المكونات الداخلة في تأسيس هذه الدولة وبين رئيسها وقائدها، ومن عجب أن "صحيفة المدينة" قد تم التعتيم عليها لأنها تسمح بكل ذلك!

وإذا كان اليهود قد انقلبوا عليها، فذلك مرجعه إلى أسباب خاصة بهم و لا تمس "الصحيفة" من قريب أو بعيد، ثم إن القرآن الكريم قد تضمن أحكاماً شرعية تتطلب قيام دولة تنفّذها، علماً أن النص القرآني لم يشمل مصطلح "الدولة"، كما أن الإسلام يقوم على أركان خمسة ليس من بينها إقامة الدولة، وهذا دليل على إمكانية وجود مسلمين دون "دولة" إسلامية.

وفي غمرة هذا الجدال المحتدم بين الفريقين فإن ذلك ينهض دليلاً لمصلحة الفريق الآخر يمكن أن يشهره في وجه القائلين بالدولة الدينية.  والقائلون بالدولة الدينية وراءهم إيمان مقيم لا يتزعزع، وهذا ما أدى في تقديري إلى فوز المعسكر الديني في الانتخابات المصرية وكل انتخابات عربية.

ويمكن تصور بقاء التوزيع الديني على حاله، بمعنى أن يظل كل قطر عربي كما كان في السابق، فتبقى مصر العربية بلد الأزهر الشريف وموئل الإسلام السمح والمعتدل وتبقى المملكة العربية السعودية أرض الحرمين الشريفين وموطن الإسلام.

وذلك "يذكّر بالنموذج التركي"، حيث تركت تركيا العلمانية التي فرضها عليها أتاتورك، واتجهت إلى إسلام أردوغان، ومن خلال هذه التجربة التركية يمكن للعالم الإسلامي أن يتلمس طريقه في الموازنة بين الدولة المدنية والدولة الدينية.

إن دراسة إحداثيات هذه التجربة، وكيف تطورت، أمر مهم للغاية، فليست هذه التجربة متاحة للجمهور إلا بعد دراستها والتأمل فيها.  وبعد...

فهل نحن مقدمون على مواجهة سلمية بين الفريقين... أم أنها مواجهة قوامها العنف والشدة؟ إن تراثنا الفقهي الإسلامي يؤشر لنا بأن المواجهة السلمية ممكنة. فهل نقتبس منه؟ نرجو ذلك.

* أكاديمي ومفكر من البحرين