-1-

Ad

عنوان هذا المقال فيه الكثير من المجاز، الذي تحدث عنه أكبر علماء البلاغة العربية عبدالقاهر الجرجاني في كتابيه "أسرار البلاغة"، و"دلائل الإعجاز".

فالنيل هنا، لا يعني ماء النيل، ولكنه الشعب المصري، والفيضان هنا، لا يعني فيضان النيل والطمي الذي يحمله، ويكون خيراً للزرع والضرع، ولكن الفيضان هنا، هذه المحنة القاسية التي تعيشها مصر الآن.

والمدمر هنا، لا يعني النيل ذاته، فالنيل جالب للخير، ومصر كما قال عنها المؤرخ الإغريقي "هيرودوت" قديماً: "هبة النيل"، ولكن المدمر يعني هنا، الأصولية والسلفية التي تتوهم أن مصر ما زالت تعيش كما كانت تعيش قبل أكثر من 15 قرناً.

-2-

فالزمن لدى هؤلاء، توقف ثم أُلغي، ولا معنى له عندهم، كما لا معنى لكل التغيرات والتطورات التي تصيب المجتمعات البشرية، نتيجة لمرور الزمن فيما لو علموا أن المفكرين الذين يعيشون في أمة واحدة وحضارة واحدة يختلفون فيما بينهم حول كثير من القضايا، نتيجة لفارق زمني بسيط بينهما، فما بالك بقرون عدة. فقد علمنا، أن أفلاطون وأرسطو اختلفا حول رأيهما في الشعر نتيجة لاختلاف الزمن القصير بينهما.

-3-

المسألة المصرية اليوم، لم تعد مصرية بقدر ما هي عربية، وإسلامية، ودولية كذلك.

لقد دخلت مصر في زمن العولمة، منذ فترة، وأصبحت ركناً من أركان هذا الكون الواسع، الذي أصبح يُختصر بالإنترنت، وتويتر، وفيسبوك... إلخ.

وكل ثانية تمرُّ بها مصر، يتردد صداها في كل أنحاء المعمورة من أقصاها الى أقصاها.

واهتمام العرب بمصر- كما سبق أن قلنا- كان نتيجة أنها هي الأسد وهي الحَمَل في الوقت نفسه، وهي تُخيف وتحتضن؛ أو تأكل وتؤكل في الوقت نفسه. وبعض السلطات العربية تسعى الى إرضاء مصر خوفاً وخشية من لسان إعلامها القوي والمؤثر، في العالم العربي كله. وبعض الحكام العرب لم ينسوا ما فعل بهم عبدالناصر، وأحمد سعيد، و"صوت العرب"، في الستينيات من القرن الماضي. لذا، فورثتهم الآن يُلقمون مصر بهذه المليارات الآن، لكي لا يتكرر ما حدث، إضافة إلى ذلك، فللعرب في مصر- السوق الناشط والمستهلك الأكبر- استثمارات كبيرة في مجالات مختلفة، كما أن للمسلمين من غير العرب، وللغربيين من الأوروبيين والأميركيين استثمارات ومصالح تجارية متعددة ومختلفة، ودولهم تسعى الى تهدئة "الحالة" المصرية، ضماناً لسلامة هذه الاستثمارات.

ومع هذا كله، جاء قلق العالم بعربه ومسلميه وغربييه، وخوفهم على مصر من أن تقع في هاوية الفوضى.

-4-

سبق للفيلسوف السياسي الأميركي صومائيل هنتينغتون (1927- 2008) صاحب النظرية المشهورة "صراع الحضارات"، أن قال بصلاحية الحكم العسكري لدول العالم الثالث، وبرر هذه الصلاحية، من أن العالم الثالث فقير بكوادره السياسية والقيادية الصالحة لقيادة بلادهم بعد نيل الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، كما أن الأحزاب السياسية ضعيفة، ولا كوادر صالحة لديها. إضافة إلى ذلك، فهناك الصراعات السياسية بين أفراد النخبة الحاكمة، حيث يُلاحظ أن أنظمة الحكم في معظم دول العالم الثالث تنتشر بينها محاولات الحاكم للانفراد بالحكم، دون معارضة. وفوق هذا كله، تعانى معظم دول العالم الثالث المشكلات الاقتصادية المتراكمة. وهو ما تمَّ في معظم البلدان العربية كمصر، وليبيا، والجزائر، وسورية، والعراق، واليمن، وغيرها.

-5-

والحالة المصرية الآن، خير شاهد على كل ذلك، فالعسكر يحكمون مصر منذ 1952، ولا غضاضة في ذلك، فقد حققوا لمصر منجزات كثيرة. ولا عيب ولا ضرر، من أن يحكم العسكر، شرط أن يتسم حكمهم بالصلاح والإصلاح، فهم أكثر جدية وحزماً من المدنيين، وهم أكثر تنظيماً وانضباطاً منهم.

وقد سبق للجنرال شارل ديغول (1890-  1970)، أن حكم فرنسا بعد التحرير من النازية عشر سنوات (1959- 1969)، وسبق للجنرال دوايت أيزنهاور (1890- 1969) أن حكم أميركا ثماني سنوات كرئيس للجمهورية (1953-1961) (الرئيس 34) لفترتين رئاسيتين. وكان له الفضل في إصدار الإنذار الأميركي الذي أوقف "العدوان الثلاثي" على مصر 1956، وأرغم المعتدين على الانسحاب.

-6-

قال العلاّمة، والمؤرخ المصري، جمال حمدان، في كتابه الشهير (شخصية مصر)، عن الحكم العسكري:

العالم الثالث، هو أكبر متحف عالمي للحفريات السياسية، ومخلفات الطغيان، والاستبداد الشرقي القديم، والرجعيات البدوية البدائية العتيقة المتحجرة، فضلاً عن أنه أصبح أبشع معقل للدكتاتوريات العسكرية والفاشية اللاشرعية المغتصبة الفاسدة نصف المتعلمة، أو نصف الجاهلة. وكأنما قد حُكم عليه أن يستبدل بالاحتلال العسكري الأجنبي القديم أيام الاستعمار، الاحتلال العسكري الداخلي الجديد بعد الاستقلال. فذاك استعمار خارجي، وهذا "استعمار داخلي". والواقع- موضوعياً- أن العالم الثالث كما هو اليوم، إنما ينتمي سياسياً إلى الماضي السحيق، يعيش في القرن العشرين الميلادي بالهيكل السياسي للقرن العشرين قبل الميلادي.

وما قاله جمال حمدان عن العالم الثالث صحيح وواقعي، ولا عاقل ينكره، ولكن ما قاله عن الحكم العسكري فيه الكثير من العواطف السياسية والتجنّي، ويخالف ما سبق أن قاله المفكر الكبير هنتينغتون، وما مارسه الفرنسيون في عهد ديغول وما مارسه الأميركيون في عهد أيزنهاور، وذلك من خلال الملاحظات التالية، وهي في مجملها، أنه ليس المهم- في رأيي- "من يحكم" سواء كان عسكرياً، أو مدنياً. ولكن المهم "كيف يحكم"؟

ففي أغلب بلدان العالم الثالث، لبس المدنيون بزة العسكر بجهالة تامة، وتسلُّط وطغيان، تغطيه المؤسسة الدينية أحياناً. في حين خلع الجنرال ديغول، والجنرال أيزنهاور بزتهما العسكرية، وحكما فرنسا وأميركا حكماً مدنياً ديمقراطياً، نابعاً من تراثهم وتقاليدهم السياسية. وربما شهدت مصر في العهد العسكري (1952- 2012) إنجازات تنموية وحضارية لم تشهده في العهد الخديوي والملكي (1882- 1952). ومورست فيها الديمقراطية- ربما- بأفضل وأوسع مما كانت عليه في السابق.

وسوف نشاهد في مصر الغد، ما سوف يؤكد، أو ينفي صحة ما نقوله الآن، فالأيام حُبلى بالأحداث الكثيرة.

* كاتب أردني