العِقد الضائع في الشرق الأوسط ومخاطر «البلقنة»!

نشر في 25-03-2013
آخر تحديث 25-03-2013 | 00:01
الواقع أن الخطر الأعظم الذي يتهدد المنطقة حالياً يتلخص في عملية التفكك الوطني التي أفرزتها الحرب الأهلية الدائرة في سورية، والتي تهدد بالانتشار ليس فقط إلى العراق، بل إلى لبنان والأردن أيضاً.
 بروجيكت سنديكيت شنت الولايات المتحدة ثلاث حروب منذ هجمات تنظيم القاعدة الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001: الأولى ضد تنظيم "القاعدة"، والثانية في أفغانستان، والثالثة في العراق. والواقع أن الولايات المتحدة خاضت أول حربين مرغمة، ولكن الثالثة كانت نتيجة لقرار عمدي ومدبر اتخذه الرئيس السابق جورج دبليو بوش على أساس أيديولوجي، ولأسباب شخصية في الأرجح.

ولو أعرب بوش، ونائب الرئيس السابق ديك تشيني، ووزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، وحلفاؤهم من المحافظين الجدد بشكل مباشر وصريح آنذاك عن نواياهم- إسقاط صدام حسين بالحرب، وبالتالي خلق شرق أوسط جديد موالٍ للغرب= فما كان لهم أبداً أن يحصلوا على الدعم الذي قدمه لهم الكونغرس والرأي العام الأميركي... فقد كانت رؤيتهم ساذجة ومتهورة.

وعلى هذا كان لزاماً عليهم أن يختلقوا أي تهديد- أسلحة الدمار الشامل العراقية. وكما نعلم الآن فإن ذلك التهديد كان مبنياً على أكاذيب (أنابيب الألمنيوم لبرنامج الأسلحة النووية على سبيل المثال، واجتماعات بين زعيم التخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر محمد عطية ومسؤولين عراقيين في براغ، بل حتى التزوير الصارخ بإبراز مستندات مزورة مثل أوامر شراء مزعومة لليورانيوم من النيجر).

كانت هذه هي المبررات التي سيقت لحرب حصدت أرواح نحو 5000 جندي أميركي وأكثر من مئة ألف عراقي، أضف إلى هذا الملايين الذين جرحوا أو شردوا من ديارهم، فضلاً عن تدمير واحد من أقدم المجتمعات المسيحية في العالم. ولنفس المبررات أيضاً أنفقت الولايات المتحدة وحدها ما قد يصل إلى 3 تريليونات دولار أميركي (التريليون- مليون مليون).

الحق أن حرب بوش ضد صدام غيرت الشرق الأوسط جذرياً بالفعل، ولكن ليس كما تصور. فبادئ ذي بدء، لو لم يكن للولايات المتحدة هدف سوى زعزعة استقرار العراق، فإن جهودها ما كانت لتسفر عن أي قدر أعظم من النجاح الذي حققته في هذا السياق: فبعد عشرة أعوام، أصبح الشك في قدرة البلاد على البقاء كدولة واحدة أعظم من أي وقت مضى.

فمع رحيل صدام، تولت الأغلبية الشيعية في العراق السلطة بعد حرب أهلية مروعة جعلت أفراد طائفة السنّة العراقية متلهفين على الأخذ بالثأر ويتحينون الفرصة للانقضاض على السلطة واستعادة سيطرتهم. وفي الشمال استغل الأكراد الفرصة التي سنحت لهم ببراعة وحذق وانتزعوا الاستقلال كأمر واقع، ولو أن المسألة الحساسة المتعلقة بالسيطرة على مدينة كركوك الشمالية لا تزال تمثل قنبلة موقوتة. والآن تتقاتل كل الطوائف سعياً إلى الحصول على أكبر حصة ممكنة من الاحتياطيات العراقية الهائلة من النفط والغاز.

بعد عشر سنوات من هذه الحرب، خلصت الدراسة التي أجرتها صحيفة "فاينانشال تايمز" لعملية "حرية العراق" إلى أن الولايات المتحدة فازت بالحرب، وإيران فازت بالسلام، وتركيا فازت بالعقود.

ولا أملك إلا أن أتفق مع هذه الخلاصة تمام الاتفاق. فمن الناحية السياسية، كانت إيران الرابح الأكبر من حرب بوش. فقد تبخر عدوها الأول صدام حسين على يد عدوها الثاني الولايات المتحدة، التي قدمت لإيران فرصة ذهبية لبسط نفوذها إلى خارج حدودها الغربية للمرة الأولى منذ عام 1746. كانت حرب بوش، التي اتسمت برؤية استراتيجية هزيلة وتخطيط بالغ الرداءة، سبباً في تعظيم مكانة إيران الإقليمية على نحو ما كان لها أن تتمكن من تحقيقه بمفردها أبداً، فقد مكنت الحرب إيران من فرض نفسها كقوة مهيمنة في الخليج والمنطقة عموماً، ومن الواضح أن برنامجها النووي يخدم هذه الطموحات على وجه التحديد.

والخاسرون في المنطقة أيضاً واضحون: المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج، التي تشعر الآن بأن وجودها ذاته أصبح مهدداً، وباتت تنظر إلى الأقليات الشيعية لديها باعتبارها طابوراً خامساً موالياً لإيران. ولعلها محقة في تخوفاتها: فمع وصول الشيعة إلى السلطة في العراق، أصبحت إيران تتحين الفرص لاستخدام الشيعة من السكان المحليين كوكلاء لتأكيد مزاعم الهيمنة. وهذا هو ما يؤجج الاضطرابات في البحرين، بعيداً عن مظالم الأغلبية الشيعية في البحرين.

وإذا نحينا جانباً الأكاذيب والروايات الوهمية والمسائل المتعلقة بالأخلاق والمسؤولية، فإن الخطأ الفادح في الحرب الأميركية ضد العراق كان غياب الخطة القابلة للتطبيق، بل حتى القوة اللازمة لفرض السلام الأميركي على الشرق الأوسط.

فقد كانت أميركا قوية بالقدر الكافي لزعزعة استقرار النظام الإقليمي القائم، ولكنها لم تكن قوية بالقدر اللازم لتمكينها من إنشاء نظام جديد. والواقع أن المحافظين الجدد الأميركيين، بتفكيرهم القائم على التمني، أساؤوا بشكل فادح تقدير حجم المهمة التي تصدوا لها- على النقيض من رجال الثورة الإيرانية، الذين سارعوا إلى حصد ما زرعته الولايات المتحدة.

وكانت حرب العراق أيضاً بمنزلة النذير ببداية انحدار أميركا النسبي لاحقاً، فقد أهدر بوش قسماً كبيراً من قوة أميركا العسكرية في بلاد ما بين النهرين سعياً إلى تحقيق أوهام إيديولوجية- وهي القوة التي افتقدت إلى حد كبير في المنطقة بعد عشر سنوات. ولا يوجد الآن بديل منظور في غياب أميركا.

ورغم غياب الصلة السببية بين حرب العراق والثورات العربية التي بدأت في ديسمبر 2010، فإن عواقب الحرب تضافرت بطريقة خبيثة مع التأثيرات التي خلفتها الثورات العربية. فمنذ الحرب، تبددت العداوات والخصومات المريرة بين تنظيم "القاعدة" والجماعات السلفية والقومية العربية السنَّية لكي تفسح المجال أمام التعاون بل حتى الاندماج. وهذه أيضاً نتيجة جلبتها علينا العقول المدبرة من المحافظين الجدد الأميركيين. وتتلاقى زعزعة الاستقرار الإقليمي نتيجة للثورات العربية بشكل متزايد مع الحال في العراق، عبر سورية وإيران في الأساس. والواقع أن الخطر الأعظم الذي يتهدد المنطقة حالياً يتلخص في عملية التفكك الوطني التي أفرزتها الحرب الأهلية الدائرة في سورية، والتي تهدد بالانتشار ليس فقط إلى العراق، بل إلى لبنان والأردن أيضاً.

وما يجعل من الحرب الأهلية الدائرة في سورية عملية بالغة الخطورة هو أن الأطراف على الأرض لم تعد هي القوى المحركة. فالآن تحولت الحرب إلى صراع على الهيمنة الإقليمية بين إيران من جانب والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا وغيرها على الجانب الآخر. ونتيجة لهذا فإن الشرق الأوسط أصبح عُرضة لخطر التحول إلى بلقان القرن الحادي والعشرين- الانزلاق إلى الفوضى الإقليمية التي بدأت بالغزو الذي قادته الولايات المتحدة قبل عشر سنوات، وكانت إلى حد كبير نتيجة له.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق ونائب مستشارها في الفترة 1998- 2005، وأحد زعماء حزب الخضر البارزين في ألمانيا لمدة تقرب من العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top