إن صعود الاقتصادات الناشئة عالميا أدى إلى الكثير من التفاؤل ليس فقط في مجال التنمية الاقتصادية ولكن أيضاً في مجال التعاون الدولي، ولكن التحول إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب لم يؤدِّ إلى تدعيم التعددية، وفي الواقع العكس هو الصحيح، فمنطق السيادة الوطنية قد عاد حيث تقوم الاقتصادات الكبرى باستمرار بتقويض التعاون فيما يتعلق بقضايا تمتد من الأمن للتجارة للتغير المناخي.

Ad

انظروا للفوضى في مجلس الأمن الدولي فيما يتعلق بالحرب الأهلية في سورية علما أنه قبل عامين فقط قام المجلس بالموافقة على قرار بتفويض تدخل عسكري في ليبيا وهو أول قرار يطبق مبدأ مسؤولية الحماية، والذي تبنته الجمعية العامة بالإجماع سنة 2005.

لكن القوى الصاعدة سرعان ما بدأت تعتقد أن الغرب قد استخدم حماية المدنيين الليبيين كحجة من أجل تغيير النظام (على الرغم من الناحية الواقعية كان من المستحيل حماية الشعب بدون إسقاط حكومة معمر القذافي)، والآن فإن هذه البلدان بشكل عام ترفض مبدأ مسؤولية الحماية، حيث تنظر إليه على أنه أداة توظفها الحكومات الغربية من أجل شرعنة محاولات خرق السيادة الوطنية.

لقد حاولت البرازيل التعامل مع هذه المسألة عن طريق صياغة قرار يفك الارتباط بين تفويض حق الحماية واستخدام القوة فعلياً يزيل أي احتمالية بتطبيق هذا المبدأ، أما روسيا والصين فلقد أعاقت إصدار ثلاثة قرارات تدين النظام السوري وعملت روسيا بجد- مع نجاح ظاهر- بتعطيل أي تدخل عسكري في سورية، وبهذا المعنى فإن روسيا والصين تمارسان الآن سيطرة فعلية على الشرعية الدولية الرسمية المتعلقة باستخدام القوة.

في واقع الأمر فإن هناك العديد من البلدان تعتقد الآن أن الغرب قد بالغ في تحدي سيادة الدول، حتى إن هناك دولاً أوروبية مثل ألمانيا تنفر من إمكانية حدوث مواجهة عسكرية، وفي قمة العشرين التي جرت في أوائل سبتمبر على سبيل المثال عانى الرئيس الأميركي باراك أوباما حتى أقنع عشر دول بالتوقيع على إعلان يتعلق بسورية لا يشير حتى إلى استخدام القوة، فقط الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا لا تزال راغبة في استخدام القوة إذا اقتضت الضرورة ذلك.

لكن إن ننظر إلى التدخل في سورية ضمن نموذج عقيدة الخلاص الغربية هو خطأ ففي سورية، وكما كانت الحال في ليبيا فإن القوى التي تتحدى الحكومة هي ليست من صنع التلاعب الغربي، بل هي قوى محلية تطلب مساعدة الغرب. ربما أن الأساس القانوني للتدخل العسكري ضعيف لكن سورية تختلف عن العراق كذلك.

فالأمن ليس المجال الوحيد الذي تتفوق فيه مخاوف السيادة على التعددية، ففي سنة 2008 تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن التزامها بجولة الدوحة من مفاوضات التجارة العالمية والمتعلقة بمنظمة التجارة العالمية، وعلى الرغم من أن القرار جاء بعد خلاف فني مع الهند، فلقد كان الدافع الرئيس وراء القرار هو اعتقاد أميركا أن أي اتفاق سوف يفيد الصين أكثر من الولايات المتحدة الأميركية.

ونظراً لفشل جولة الدوحة في التعامل مع المشاكل الرئيسة التي واجهتها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في علاقاتها التجارية مع الصين– عدم التقيد بقوانين الملكية الفكرية والدعم للمؤسسات التي تملكها الدولة وأسواق المشتريات الحكومية المغلقة والقيود على إمكان الوصول لسوق الخدمات- تؤكدان الآن أهمية عقد اتفاقيات تجارية ثنائية، وبينما العالم يمكن أن يتظاهر أن التعاون الثنائي يمكن أن يعيد تنشيط التعددية، يجب ألا ينخدع أحد بذلك، وإن منظمة التجارة الدولية سوف تبقى لكن أهميتها بالنسبة إلى النظام التجاري تتناقص بشكل سريع.

حتى التعاون المتعلق بالتغير المناخي في حالة انهيار، إذ ترفض الولايات المتحدة الأميركية والصين المقاربة المتعددة الأطراف التي تأتي من الأعلى والمتعلقة بصنع السياسات، وهذا يوحي بنهاية نموذج بروتوكول كيوتو الذي مثل نموذج الدوحة المبني على أساس أجندة مفصلة مصممة لأهداف محددة وطموحة مع جميع اللاعبين ذوي العلاقة، ومن ثم يتم إجبارهم على التفاوض على كل موضوع.

وبدلا من أن تكون أميركا والصين خاضعتين لمقاييس متفق عليها عالميا تريدان أن يتم البدء بالقتال ضد التغير المناخي بوجود التزامات فردية للدول، ولكن هذا الإطار الجديد المبني من الأسفل إلى الأعلى وبموجبه تحدد الدول الشروط المطلوبة للتوصل لاتفاقية متعددة الأطراف، يفتقر للسلطة على عمل المقاييس. فالتعددية تستوجب أدنى حد من الإجماع على القواعد والمعايير الدولية بين جميع القوى، وكلما زاد عدد البلدان التي تمتلك القدرة على إعاقة المبادرات العالمية أو استخدام الفيتو بشأنها أصبحت التعددية أكثر صعوبة، بحيث لا يتوافر للدول المهيمنة الحافز للتعاون، وإحراز تقدم في حل القضايا العالمية في هذا العالم المتعدد الأقطاب والذي يتضمن مخاوف تتعلق بالسيادة وتنافس استراتيجي سوف يصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى مع إمكانية نشوء عواقب كارثية.

*زكي العايدي، أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس ومؤلف كتاب الإنجازات المحدودة: سياسة أوباما الخارجية.

«بروجيكت سنديكت» بالاتفاق مع «الجريدة»