سنوات عجاف، فبعد الحرب العالمية الثانية، كان الرجال يذهبون بقروشهم القليلة حتى إلى عمان، التي كانت لاتزال قرية كبيرة في تلك الفترة، ويعودون و"عُدولهم" فارغة فلا قمح ولا شعير ولا ذرة، فالأسواق كانت خاوية، وأوروبا التي كانت ضربتها مسغبة قاسية لاتزال تلعق جراحها ولا تتمكن من تصدير أي شيء، والموانئ الغربية المهشمة والمحطمة لم تكن قادرة على إطلاق السفن في اتجاه الشرق.
تجمَّع رجال القرية في خريف تلك السنة البائسة من نهايات عقد أربعينيات القرن الماضي، وحملوا أكياسهم وعُدولهم وساروا في قافلة منهكة، دوابها هزيلة ومتعبة وجائعة وسقيمة، واتجهوا إلى جرش التي تقع في اتجاه الشمال والتي يفصلها وادي الزرقاء عن القرية التاريخية الجميلة التي انطلق منها الرجال.ما إن وصل الرجال إلى سيل الزرقاء، وهم في طريقهم إلى مدينة الأعمدة و"البراطيل" والتجار الذين جاءوا من الشام عندما كانت البلاد واحدة والشعب واحد ومدينة المهاجرين الذين أتوا من القوقاز هروباً بدينهم من ظلم الروس وقسوتهم... ما إن وصل الرجال إلى هذا السيل الذي كان يغرق بين أشجار الدفلى والعليق والنعناع البري حتى انتشروا كل واحد... "على خِرَّ أذنه" يبحثون عن أي شيء يلقمونه بطونهم الخاوية... مثل "الحويرَّه" و"الفرفحينة" وبعض الفطر الذي ينبت في سنوات الخير على أسفل سيقان أشجار الصفصاف.لم يجدوا شيئاً يأكلونه... لا إحويرَّة ولا "فرفحينة" ولا شيء... فأهل القرية المجاورة الأقرب كانوا ينطلقون، مع أول ضوء من صباح كل يوم، طوابير من المشاة في اتجاه مجرى هذا السبيل بحثاً عن أي شيء، حتى جذور الأشجار وما ينبت من نبت شيطاني على حواف قنوات المياه، يدفعون فيه الموت جوعاً عن أنفسهم.وصل الرجال إلى جرش، وبحثوا في كل "الدكاكين" الشامية ولم يجدوا إلا "رمارم" عجوة نخرها السوس... وبعض الطحين الذي حولته الرطوبة إلى مزارع لـ"الشعشبون" والفطريات... فاشتروا ما استطاعوا شراءه وعاد كل واحد منهم بصرة فيها بعض التمر "المُسوِّس" وبعض الطحين، الذي أقسم صاحب الدكان برقبته ورقاب أبنائه على أنه طحين قمح حوراني من الذي تشتهيه القلوب، لكن كبار السن من الذين شاركوا في مسيرة الجوع هذه أقسموا بـ"حدد" و"الشيخ زيدان" و"بشعيب" أيضاً على أن ذلك المسحوق اللزج الأبيض ليس طحين قمح ولا ذرة ولا شعير ولا أي شيء عرفوه من قبل.وصلوا إلى القرية، المحشوة بالأحزان والقهر وبالأطفال الحفاة والعراة والجوعى، في ساعات ما قبل المساء... وخلال لحظة بدأ الدخان يتصاعد من البيوت الطينية وبعض بيوت الشعر... وارتفعت معنويات النساء اللواتي كنَّ يكابدن قهر الجوع وقهر الرجال المفلسين الذين يشعرون بالعجز بسبب الجوع وقلة ذات اليد... وتناول الطفال خبزاً طعمه كالعلقم... لكنهم تناولوه بشهية تحت ضغط بطونهم الخاوية.بعد أقل من ساعة تعالى صراخ وعويل النساء... وارتفعت ولولات الرجال... فكل من أكل من هذا الخبز العجيب... أصيب بدوخة ودوران شديدين... وأخذ الأطفال يتقيأون... وقال أحد "الخبراء" للرجال الذين تجمعوا حول كومة من أطفال كان يبدو كل واحد منهم في الرمق الأخير: إن هذا الطحين... اختلط بسم الفئران خلال نقله من بلاد الإنكليز... والروس بواسطة السفن!
أخر كلام
من الذاكرة: السم!
30-07-2013