من الذاكرة :«الأوتونبيل»

نشر في 31-07-2013
آخر تحديث 31-07-2013 | 00:01
 صالح القلاب هذا كان حدث معي أنا العبد الفقير إلى الله شخصياً، ففي ذات يومٍ قائظ شديد الحرارة غلبني النوم بعد أن سئمت منازلة الطيور التي كانت تغافلني فتهاجم أفواجاً... أفواجاً "المقثاة" الوحيدة في قريتنا التي كانت محاطة بشريط من الذرة البيضاء التي كانت تستهدفها العصافير العنيدة المتوحشة التي تشبه عصافير "هوتشكوك" في ذلك الفيلم الأميركي الرائع الذي أساء إلى سمعة الطيور ووصفها بما ليس فيها والذي لم أذكر فيلماً أفضل منه إلا فيلم "زوربا" اليوناني الذي لعب دور البطولة فيه الممثل القدير أنطوني كوين.

كنت أستمتع بغفوة حلوة بعد أن تعبت من منازلة طيور وعصافير "هوتشكوك" وكنت أتفيأ ظل شجرة بلوط خالدة، تفقدتها قبل أيام فوجدت أنها لا تزال في مكانها شامخة وارفة الظلال وأنها سلمت من "مناشير" الفحَّامة الذين أبادوا الألوف من أشجار غابة تاريخية لا توازيها في الأهمية إلا آثار جرش التي بدورها كانت تعرضت للنهب والإهمال والتي حول العَنَّابة إيوانها الكبير وسرادقات ملوك كانوا أسياد الدنيا في وقت من الأوقات إلى "مقايل" لبهائمهم!

لم تطل غفوتي الجميلة، التي كنت أرى خلالها العصافير المفترسة تهاجم ذوائب نبتات الذرة البيضاء بوحشية بالغة القسوة، فقد سمعت جلبة هائلة مخيفة أخذت تقترب مني حتى بتُّ أخال أنها دخلت أذني، رفعت رأسي المثقل بالنعاس وبالسأم والملل فرأيت حيواناً هائجاً لم أره من قبل يندفع نحوي بسرعة هائلة، صرخت صرخة مدوية أفزعت أسراب العصافير الجسورة التي كانت تستمتع بحشو حواصلها بحبوب الذرة البيضاء الطرية الحلوة المذاق والجميلة المنظر.

حاولت الوقوف لكن همتي خذلتني واقترب هذا الشيء الأحمر الذي لم أره من قبل حتى كادت حوافره السوداء الدائرية الكبيرة تلامس جسمي الذي كان يرتعش بشدة وكأنني مصاب بحمى "سيل الزرقاء". أغمضت عيني واستسلمت للقدر وأخذت أردد الشهادة بصوت غائر في صدري الذي كان يرتفع ويهبط وأنا أتوقع أن أصبح بين أشداق هذا الغول الغريب في أية لحظة.

لم أستطع فتح عيني من شدة الخوف رغم ان الجلبة الهائلة خفَّت ثم توقفت تماماً، انطلقت ضحكات مدوية ظننتها ضحكات الغولة التي قال أصحاب الخيال الواسع من كبار السن انهم رأوها في الكهوف المجاورة للسهل الذي تقع فيه مقثاتنا، لقد جف حلقي وانعقد لساني وتحول صراخي المدوي إلى أنين يختلط بنشيج مخنوق، كانت لحظات خلتها الدهر كله وكنت أُكوِّر جسمي لا إرادياً حتى أتجنب فم هذا الوحش الغريب الذي لم أره من قبل.

لقد صدرت أصوات آدمية، لكن قلبي لم يتوقف عن الوجيب فكبار السن أصحاب الخيال الواسع من قريتنا سمعتهم يقولون إن غولة "مغر سليم" لديها قدرة عجيبة على التحول مرة إلى عجوز شمطاء ومرة إلى جمل هائج ومرة إلى بقرة "مسعورة"، اقتربت الأصوات الآدمية حتى أصبحت فوق رأسي لكنني تظاهرت بالموت وقطعت أنفاسي ولم أحاول طرد ذبابة لعينة استهدفت، في تلك اللحظة العصيبة، طرف فمي لتمتص باقي آثار سائل بطيخة كنت قد افترستها بنهم رغم أن قلبها كان لا يزال أبيض مثل القطن.

أحسست بلكزة في طرف قدمي الحافية الصغيرة فارتجف كل جسمي وظننت أنه الأجل المحتوم، وتكررت اللكزة لكنني واصلت التظاهر بالموت، انطلق صوت شعرت أنه كان حنوناً: "لا تخف... عموه.. لا تخف" فتحت عينيَّ فرأيت ثلاثة شبان بثياب لم أرها من قبل، سألوني عن أقرب قرية،  فأجبتهم وشرحت لهم لكنهم عندما لم يستوعبوا ما قلته قالوا اركب معنا في هذه "السيارة" لتأخذنا إلى هذه القرية.

ركبت معهم وكانت تلك أول مرة في حياتي أركب فيها سيارة بل وأرى فيها سيارة، وعندما وصلنا إلى القرية ونزلت ثم غادرت السيارة بمن فيها منعني الحياء من أن أذكر ما حدث معي وكيف استبد بي الخوف، بل وأخذت أسرد قصصاً وهمية عن بطولاتي، ولم أتورع في أن أكذب كذبة فاضحة كبيرة جداً قلت فيها إن هؤلاء الشبان سمحوا لي أن أسوق هذا "الأوتونبيل" من مقثاتنا وحتى مشارف القرية.

back to top