تظاهرات «ميدان تقسيم»... ليست «ربيعاً» !
لا شك أنكم رأيتم صور الصدامات مع رجال الشرطة، والإطارات المحترقة، ودروع قوات مكافحة الشغب، والمتظاهرين الذين يعانون من جراء التعرض للغاز المسيل للدموع. باتت هذه الصور مألوفة جداً بالنسبة إلينا خلال السنوات الماضية، حتى إننا أصبحنا محصنين ضدها نوعاً ما، لكننا لا نستطيع إلا أن نرى في هذه الصور التحول المذهل الذي شهدناه في "ميدان تقسيم" وسط إسطنبول في غضون عشرة أيام تقريباً، فقد تحول هذا الميدان إلى مجتمع سلام ومحبة وأمل حيّ يتنفس. راح محبو السلام والحرية يهمسون، فيما كانوا يتنقلون بين أكشاك الطعام المجاني والكتب وغابات المتظاهرين والإعلام الحمراء، فبدا هذا المشهد أجمل من أن يدوم، فأدركنا كلنا هذا الواقع.كان تنظيم المتظاهرين ممتازاً: بقيت كل مساحة صغيرة من منتزه جيزي مغطاة بالخيم، والأغطية، والطاولات المحمّلة بالطعام، والخرائط، ومراكز الاستعلامات. كذلك أُقيمت الحواجز عند كل المداخل كي يحرص القيمون على دخول مَن يثقون بهم فحسب. وتوافرت أيضاً مكتبة، وعيادة، وأقنعة مسرح، وأقنعة للغاز، فضلاً عن حديقة، وبغية منع البلدية بشاحناتها الكبيرة من جمع النفايات، كان المتظاهرون ينظمون كل صباح حملة تنظيف، متناقلين أكياس النفايات في سلاسل بشرية. وهكذا، بدل أن يعج الميدان بأفواج لامتناهية من المتسوقين الذين يعيش كل منهم في عالمه الخاص، شعر الناس بحرية اقتراب بعضهم من بعض وتبادل الأحاديث والحوارات.
لهذه الحركة التي بُدِّدت بقسوة يوم الثلاثاء الماضي سابقات تاريخية. تألفت "تركيا الفتاة" من مجموعة من المواطنين الأتراك الذين ثاروا على السلطان العثماني عبدالحميد الثاني وحكومته المستبدة في مطلع القرن العشرين. ويُعتبرون غالباً من العوامل التي مهّدت الطريق أمام الحداثة وانهيار السلطنة العثمانية. وبما أن "تركيا الفتاة" ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأفكار الراديكالية والتغيير الثوري، بات هذا المصطلح يُستخدم في الحياة اليومية كإشارة إلى مجموعات من الشبان الناشطين سياسياً الذين يسعون إلى التغيير.تعود أصول هذه الحركة إلى عام 1889، حين انتشر جو من الانشقاق الصامت في مختلف أرجاء الإمبراطورية العثمانية، خصوصاً بين الطلاب والجنود المستائين. فبعد مرحلة وجيزة من الحكم الدستوري بين عامَي 1876 و1878، علّق السلطان الدستور التركي، مسبباً الكثير من الاضطرابات بين مواطني السلطنة العثمانية، فبدأ أعضاء حركة "تركيا الفتاة" بالاجتماع ضمن خلايا صغيرة لمناقشة تشكيل حكومة علمانية تستند إلى الدستور وتكون بديلاً للحكم الملكي التركي القائم. وظلت هذه الحركة تنتشر بسرعة حتى عام 1906، حين خرجت "تركيا الفتاة" إلى العلن وبدأت تعمل بدأب لإحلال التغيير. في تلك الفترة، كان أعضاء تلك الحركة مجموعة فاق شغفها رؤيتها، فتخلصت من سلطان لتستبدله بأخيه المسن الذي دُفع إلى العلن من قصر سجنه فيه عبدالحميد طوال 30 سنة. تخيّلوا الرعب الذي تملكه عندما سمع تحية المئة طلقة وطلقة، والراحة التي انتابته عندما تُوّج ليصبح السلطان محمد الخامس.لعب مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية العصرية العلمانية، دوراً بسيطاً في ثورة "تركيا الفتاة"، لكن مَن زاروا "ميدان تقسيم" خلال الأسبوع الماضي لاحظوا على الأرجح الأعلام الحمراء الكثيرة التي تحمل صورته. يؤيد أنصار "الكمالية" هذا الزعيم تأييداً أعمى أحياناً. لكن الأعلام في "ميدان تقسيم" شكّلت في المقام الأول مذكّراً بالمثل البارزة التي داسها رجب طيب أردوغان، خصوصاً الفصل بين الدين والدولة. لا يتردد الأتراك في تناسي زلات أتاتورك لأنه ساهم في ولادة الجمهورية العصرية. إلا أن أردوغان يكره هذا النفوذ الذي ما زال الأب العظيم يتمتع به بين شعبه، ويتوق إلى بلوغ مصافه.إذن، ما بدأ كتظاهرة احتجاج على تدمير المساحات الخضراء القليلة المتبقية في إسطنبول تحوّل إلى منارة للتشدّد في كامل أرجاء البلد. فمع حلول الظلام ليلاً، تعلو في المدن أصوات قرع القدور والمقالي، إلا أن هذه المحاولات لا تتبع خطة منظمة، إنما هي صرخة ألم. جاء ردّ فعل رئيس الوزراء قوياً غاضباً لأنه عجز، مهما حاول، عن سحق وسائل التواصل الاجتماعي، فقد هزمه موقع "تويتر". كذلك بالغ رجال الشرطة في ردّ فعلهم لأنهم كانوا طوال سنوات يرسَلون بأعداد كبيرة كلما تظاهر اثنان أو ثلاثة، إلا أنهم كانوا يقفون مكتوفي الأيدي طوال ساعات من دون اتخاذ أي خطوات. وها هم اليوم يشاركون بفاعلية.انتهى الاحتلال الوجيز لـ"ميدان تقسيم" للوقت الراهن وقد تعود السيارات قريباً إليه، بعد أن تُزال آثار الدماء وتُرفع الأنقاض. ربما يزدري أردوغان بالمتظاهرين ويعتبرهم "رعاعاً"، لكن الأسواق المالية تعاني، والمستثمرين المحتملين يبتعدون... وهذه بالتأكيد تفاصيل لا يمكنه تجاهلها.Betty Caplan