في أحد مشاهد فيلم "قصر الشوق" كان ياسين "عبدالمنعم إبراهيم" يسير في الطريق معاكساً ومغازلاً خديجة "هدى سلطان" التي تسير أمامه بالملاية اللف (الزي النسائي المصري في ذلك الوقت) يسمعها كلمات الغزل والهوى، فتلتفت إليه غاضبة لتصفعه على وجهه فتفاجأ بأنه شقيقها.

Ad

 بهذا المشهد القصير زمنياً الكبير فنياً عبر نجيب محفوظ، الحائز جائزة نوبل في الأدب، وحسن الإمام مخرج الروائع، عن رفضهما وإدانتهما للتحرش الجنسي في ثلاثينيات القرن الماضي، فكان مشهدا قمة في الكوميديا والسخرية الهادفة لمن يريد أن يتعلم فن السخرية.

لذلك ليس غريبا- بل من الواجب- أن يتم تخصيص برنامج أو ندوة أو حلقة نقاش حول التحرش ورفضه وإدانته، ولكن الغريب والعجيب أن يحتوي أي من ذلك على كم من المغالطات يصعب وجودها معا، خاصة أن هناك عددا كبيرا من المعدين والمراجعين وراء كل لقطة وكل مشهد، فما السبب يا ترى في هذا الكم الكبير من المغالطات؟

بعيداً عن سياسة "القص واللصق" التي تنتهجها الكثير من البرامج، خاصة بعد ثورة يناير بدعوى أن هذه هي الكوميديا التي تعتمد على اقتطاع مفردات وعبارات، من أفواه المتحدثين على طريقة "لا تقربوا الصلاة..."، أو إقصاء- بلغة الثوار- بعض الجمل والكلمات، فيبدو للمشاهد أن هذه العبارات المنقوصة والجمل غير المكتملة تعبر عن رأي من يتحدث وفكر من يناقش.

بعيداً عن ذلك كان الحديث (عذرا التلميحات والإشارات الخفية) كلها تشير إلى التحرش الجسدي طوال 90 دقيقة، وللأمانة ففي أقل من نصف دقيقة ذكر البرنامج أن هناك تحرشاً بالعين واللسان على طريقة "احنا قلنا آهه" كي لا ينتقد أو يدعي أحد من الحساد والحاقدين أنه لم يذكر ذلك.

والعجب الثاني كان ذكر أحكام مطلقة وتقريرها ولا ندري من أعلنها؟ وعلى أي أساس؟ فمصر "ثاني دولة في العالم في التحرش الجنسي!" أين الإحصاءات؟ ومن قام بها؟ وفي أي مكان؟ ومتى؟ وما الأعداد التي شملتها الإحصاءات؟ كل ذلك مجهول... والمعلوم فقط أن مصر ثاني دولة في العالم في التحرش! (مع الاعتذار لبرنامج طرائف وغرائب).

وثالثة العجائب أو "مستر سين" الحلقة بلغة أهل السينما كان قول إحداهن إن النساء لا يحضرن إلى مصر خوفاً من التحرش!! هكذا حكم آخر بلا نقض ولا استئناف بل بلا دليل أو برهان، فالنساء لا يخشين الانفلات الأمني أو تعرضهن للسرقة ولا الانهيار الاقتصادي وغلاء الأسعار ولا أزمات المرور وتعطل المواصلات... كل ذلك لا قيمة له ولكنهن يخشين فقط التحرش الجنسي!! يبدو أن "عنتر شايل سيفه" كما يقول عادل إمام.

لا يمكن لإنسان ينتمي إلى الجنس البشري أن يقبل بالتحرش فضلا عن تبريره، ولكن الحديث عن أسبابه ومبرراته ودوافعه أمر واجب على كل من يحمل أمانة العمل الإعلامي، ولا يمكن الاكتفاء فقط بدخول موسوعة "غينس" كأكبر وأول وأكثر أو ثاني وثالث... إلخ.

 فالتحرش سلوك فردي مرفوض وإن تحول إلى ظاهرة يصبح مرضا اجتماعيا مرفوضا كذلك، ولكن متى يتحول إلى ظاهرة؟ وما تعريفها؟ وكيف يمكن رصدها؟ بالتأكيد لعلماء الاجتماع الكلمة الأولى والأخيرة في هذا المضمار.

وفي النهاية فإن كان من حق المنتج "بكسر التاء" أن يعرض بضاعته في السوق (الفضائيات) ويضع أفضل ثماره (برامجه) على "وش القفص" كما يقولون، فمن حقي كمستهلك (مشاهد) أن أقول له عذراً... ثمارك حامضة وتسبب الغثيان والقيء.