هذا العام، بالتحديد في أغسطس 2013، سيحتفل المتآمرون بمرور عشر سنوات على نجاح خطتهم في خطف... أو قتل... الصحافي الكبير رضا هلال!! وربما يحتفل المتآمرون باليوبيل الفضي ثم الذهبي بعد ذلك، طالما أن السنوات تمر... واللغز كما هو... تكثر فيه الأقاويل والحكايات والأسرار... لكن تبقى الحقيقة ثابتة في نفس مكانها منذ عشر سنوات... يوم 11 أغسطس 2003 حينما ظهر رضا هلال لآخر مرة.

Ad

 

هؤلاء المتآمرون قد يكونون جهة ما... أو شخصاً جند أشخاصاً آخرين... قد يكونون رجالاً ولكن السبب في الجريمة امرأة؟ المهم أنهم خطفوا نائب رئيس تحرير «الأهرام» ثم قتلوه... أو خطفوه ثم أدخلوه مستشفى المجانين، أو قتلوه ثم أذابوا جثته بالجير الحي! هذه وغيرها ليست شطحات... إنما أقوال تم تسطيرها على الأوراق الرسمية في تحريات المباحث أو تحقيقات النيابة.

اتسعت دائرة الشبهات لتشمل كبار القوم... بدءًا من نجل الرئيس السابق حسني مبارك... ووزير داخلية مصر الأسبق حبيب العادلي... وانتهاء بكاتبة صحافية!... ورغم فتح التحقيق مرات على مدار السنوات العشر، إلا أن الأدلة والشواهد تتبدد فجأة... وتعود القضية إلى نقطة الصفر... ويعود التساؤل نفسه الذي تحول إلى عار فوق جبين أجهزة الأمن... أين اختفى رضا هلال!

بداية اللغز

تعالوا نفتح أول صفحة من صفحات هذا اللغز الكبير... من يوم اختفائه... بالتحديد من اللحظات الأخيرة التي شوهد فيها للمرة الأخيرة! نحن الآن داخل جريدة «الأهرام» في القاهرة... وفي الطابق الخامس بالتحديد، حيث مكتب رضا في قسم الديسك المركزي... كان يرتب أوراقه ويتأهب للانصراف بينما يجري من هاتفه المحمول آخر مكالمة سمعها زملاؤه... اتصل بمطعم «أبو شقرة»... طلب كيلو كباب وكفتة وحدد له ساعة وصول الوجبة إلى منزله. في تمام الثانية بعد الظهر... نزل رضا... كالعادة وجد سيارة الأهرام في انتظاره وبداخلها عم سيد، السائق الذي يتولى توصيله يومياً في هذا الموعد!

مضت السيارة بسرعة إلى شارع إسماعيل سري المتفرع من شارع قصر العيني... وأمام العمارة رقم 34 توقفت السيارة، حيث يسكن رضا... كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية و25 دقيقة بالضبط... صعد رضا إلى الطابق الخامس حيث شقته التي يقيم فيها بمفرده.

 بالمناسبة لم يتزوج لأنه لم يعرف في حياته كيف يدّخر المال لإيمانه بمبدأ اصرف ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب... وربما لأن علاقاته الغرامية المتعددة كانت تلهيه أو تغنيه عن الزواج!... المهم كان يعيش وحده في هذه الشقة التي شهدت وصول صاحبها للمرة الأخيرة... ولمدة دقائق معدودات، فكل شيء بعد ذلك دخل دائرة الغموض.

وصل عامل المطعم بوجبة الكباب في تمام الثالثة وظل يطرق الباب وقتاً طويلاً... من دون أن يفتح له أحد... أو يردّ عليه أحد... أو يسمع صوتاً بالداخل! لم يتطرق الشك إلى عامل المطعم أو البواب، فالمحتمل أن يكون رضا قد غلبه النوم لإرهاق أو مرض أو صداع... أو نزل لأمر مهم وطارئ لم يرتِّب له... خصوصاً أن طلبه كيلو كباب ربما كان يشير إلى انتظاره لشخص كان سيزوره ويتناول معه الغداء؟

مرّ اليوم بهدوء... لكن صباح اليوم التالي لم يذهب رضا إلى عمله... عادة إذا رغب في إجازة عارضة يستأذن هاتفياً ليتم تكليف زميل آخر بعمله المهم... لكن لم يحضر أو يعتذر أو يتصل... مضت ساعة... ساعتان... تسرب القلق إلى نفوس زملائه... اتصلوا به على hgog,d... لكن الهاتف مغلق أو خارج نطاق الخدمة... اتصلوا على الهاتف الأرضي... إلا أن جرساً طويلاً انتهي إلى لا شيء!

ظن فريق من الزملاء أن مكروهاً وقع لرضا داخل شقته، ربما فارق الحياة! فيما رفض فريق آخر التشاؤم... وتساءل فريق من الأشرار لماذا لا يكون قد بات ليلته في منزل صديق، أو صديقة! الذين أحبوا رضا من زملائه سارعوا إلى الاتصال بأهله... خصوصاً بعدما عاد السائق الذي أرسلوه إلى شقة رضا وأبلغهم أنه لم يرفع يده عن جرس الباب... لكن لم يفتح له أحد!

 طلب زملاء رضا من عبد الرحمن مدرس الثانوية وشقيق رضا الأصغر أن يتولى بنفسه فتح الشقة للاطمئنان على أخيه... وأنه لم يصب بمكروه ولم يفارق الحياة! بالفعل قصد عبد الرحمن مع بعض زملاء رضا الشقة وفتحها... لكن لا رضا بالداخل... ولا آثار عنف أو مقاومة... كل شيء في مكانه... والهدوء سيد الموقف!

بحث مضنٍ

اتصل عبد الرحمن بالأسرة في مدينة المنصورة... كان الخبر مزعجاً... حضروا جميعاً... قسموا أنفسهم إلى فرق... فريق يبحث عن رضا في المستشفيات... ثانٍ يقصد المشرحة... وثالث ينتقل بين بيوت الزملاء والمعارف والأهالي المقيمين في القاهرة... ورابع يسأل في المقاهي وكازينو «الجريون» في جوار سينما قصر النيل، حيث كان رضا يلتقي بعض أصدقائه... والمكان معروف بأنه ملتقى الفنانين والصحافيين والناشطين السياسيين... لكن عادت الفرق بخفي حنين... ولا أثر لرضا... كأن الأرض انشقت وابتلعته...

صار لزاماً إبلاغ الشرطة... حُرِّر محضر بالواقعة في قسم شرطة قصر النيل... وكان على جهاز الأمن، بكل ما يملك من إمكانات عالية وجبارة، أن يستثمر أدواته في الوصول إلى مكان رضا حياً أو ميتاً!!.. خصوصاً أن الأيام تمرّ من دون أن يظهر في الأفق أي ضوء... أو لمحة أمل... أو حتى مجرد خيط يقود إلى كشف اللغز.

مفاجأة

بدأت أجهزة الأمن نشاطاً مكثفاً وواسعاً ومتعدد الاتجاهات... توجهت إلى مكتب رضا في الأهرام وفحصت الكمبيوتر الخاص به والأوراق والمستندات داخل أدراج المكتب... وسألت زملاءه عن كل ما يتعلق بحياته أو شخصيته... وفي شقة رضا فتشت الأجهزة الأمنية مكتبته الزاخرة بالكتب عن الحريات والديمقراطية ومؤلفات محمد حسنين هيكل والأديب نجيب محفوظ... وسألت الجيران...

 قال البواب أشرف إن رضا، قبل أن ينصرف في الصباح، طلب منه شراء عصائر وسجائر، ثم اتجه إلى عمله ولم يره بعد ذلك... إلا أن اشرف لم يكن موجوداً لحظة عودة رضا إلى العمارة، وأوضح أنه لدى عودته صعد مع عامل المطعم إلى شقة رضا وطرقا الباب فلم يرد عليهما أحد!

وبسؤال سيد عبد العاطي سائق الأهرام الذي كان آخر من رأى رضا، أكد أنه كان ينتظر رضا أمام مدخل الجريدة، وعندما خرج من المبنى عند الثانية كان مبتسماً كعادته... وفي الطريق إلى منزله طلب منه أن يرفع صوت الراديو وكان على محطة FM... ولما وصلا أمام العمارة نزل رضا وودعه بعبارته الشهيرة:

سلام يا مواطن

أما عمرو فوزي زميله بالأهرام فقال: «قبل اختفائه بأسبوع طلب مني رضا أن أحجز له غرفة في فندق فلسطين بالإسكندرية لقضاء إجازة هناك تبدأ من يوم 17 أغسطس... وأعطاني خمسمائة جنيه مقدم الحجز... ويوم اختفائه رأيته للمرة الأخيرة في الجريدة وطلب مني تأكيد الحجز».

لم تعتمد المباحث على الصدفة... وتأكدت من المطارات والموانئ أن رضا لم يغادر مصر... فهل له أعداء فتحوا ملفه الشخصي: الوظيفة نائب رئيس تحرير الأهرام... عمل مراسلاً في الولايات المتحدة الأميركية ثلاث سنوات لجريدة «العالم اليوم»... غير متزوج... محسوب على التيار الليبرالي... ويتعرض لمضايقات من التيارات السياسية الأخرى... وبسبب أرائه السياسية وانحيازه للرئيس السادات فقد أصدقاء كثراً لم تعجبهم أفكاره.

 لطالما ردد أنه يكتب عن مصر التي يتمناها وليس عن مصر التي يعيش فيها... وآخر مقال نشره قبل يوم واحد من اختفائه كان بعنوان «أزمة الديمقراطية في العالم العربي»، انتقد فيه انتخابات نقابة الصحافيين، ثم انطلق منها إلى الانتخابات العامة التي قد تكون ديمقراطية بالفعل، لكنها قد تأتي بمن لا يؤمنون بالديمقراطية؟ ومن المعلومات المهمة، أيضاً، أن رضا هلال كان مرشحاً بقوة لرئاسة تحرير الأهرام ما أثار حقد كثيرين من زملائه.

ومن خلال أجهزة المساعدات الفنية بوزارة الداخلية وشركات المحمول تم رصد 50 مكالمة صادرة من موبايل رضا أو وصلت إليه، ثم أُغلق الهاتف!... لكن أولى المفاجآت كانت عندما تقدم أحد المواطنين طالباً الإدلاء بشهادته في واقعة اختفاء رضا، قال: «... رأيته بالصدفة، يخرج من باب العمارة، عند الثالثة و25 دقيقة... وكان يمشي بسرعة غير عادية!!»

احتار فريق البحث الجنائي أمام هذه المعلومات التي لا تؤدي إلا لتفسير واحد، هو أن رضا تلقى بعد صعوده إلى شقته مكالمة على هاتفه الأرضي جعلته يغادر المكان مسرعاً... لأن جميع المكالمات التي تلقاها على المحمول أو صدرت منه تم فحصها ولم تشر إلى شيء من هذا القبيل!

صحافي غير عادي

فجأة... تبرز معلومات مهمة أمام أجهزة الأمن تؤكد أن رضا هلال لم يكن صحافياً عادياً... وإنما كانت له علاقات متميزة وخطيرة ساعدته في عبور أزمات حقيقية كان أهمها أزمته مع النظام العراقي أيام غزو الكويت... كان رضا في بغداد وفوجئ بالمخابرات العراقية تطلب منه أن يقود حملة لتأييد الغزو العراقي إلى الكويت... لكن رضا رفض بشدة... فسرت السلطات العراقية الموقف بأن هذا الصحافي يعمل ضد المصالح العراقية، وهي تهمة عقوبتها التصفية الجسدية... إلا أن العراقيين فوجئوا بأن رضا غادر أراضيهم بجواز سفر أردني... فكانت صفعة للمخابرت العراقية ورجال صدام حسين... وهو ما تم وضعه بعد ذلك في الحسبان مع واقعة اختفاء رضا واحتمال أن يكون رجال صدام حسين قد اصطادوه في القاهرة؟

سيد هلال شقيق رضا قال إن شقيقه حصل من خلال علاقاته الطيبة على جواز سفر أردني وهرب من العراق عبر صحافي أردني صديق له... بالمناسبة سيد يقيم في شقة رضا منذ اختفائه، ويبدو أنه لن يهدأ له بال حتى يعرف الحقيقة وينكشف السر ويظهر شقيقه حياً أو ميتاً لا قدر الله!

أمور غريبة

لاحظ سيد هلال أمراً غريباً لم يلتفت إليه رجال المباحث أو بواب العمارة وقال إنه حينما فتح الشقة فوجئ بأن الباب مغلق بقفل على غير العادة لأن رضا يستخدم دائماً المفتاح في غلق الباب... فمن الذي وضع هذا القفل... ولماذا... وماذا يعني؟ وأجاب سيد عن أسئلة أخرى طرحتها عليه الأجهزة الأمنيّة في محاولة للوصول إلى خيط يكشف معلومة تفيد البحث عن رضا:

* كيف كان برنامجه اليومي؟

** ينهض من نومه عند التاسعة صباحاً، ويتناول الفطور مع كوب نسكافيه ثم يفتح باب الشقة ليجد الجرائد التي أحضرها له البواب، وبعد أن يقرأها يأخذ حماماً ثم يتابع الأخبار في محطة C.N.N وبعدها يتوجه إلى العمل... وفور انتهائه يعود إلى البيت ما لم يكن مرتبطاً بندوة أو اجتماع... يمتاز بالدقة الشديدة في مواعيده ولم يتغيب يوماً عن عمله أو تخلف عن ندوة إلا بعذر قهري. أما طعامه فكان غالباً من الوجبات الجاهزة: لحوم مشوية أو أسماك... وفي المساء يقضي ليله في الترجمة والتأليف حتى ساعات الفجر الأولى.

* متى كانت آخر مكالمة بينكما؟

** يوم الأحد... قبل اختفائه بيوم واحد... سألني عن ابنتيّ نوران (8 سنوات) ومي (4 سنوات)، وظل وقتاً طويلاً يحدثهما.

* هل تشتبه بشخص أو جهة وراء اختفاء رضا؟

** نعم... أولئك الذين هم على عداء معه بسبب كتاباته لا شخصه!

* هل تلقى تهديدات بسبب مقالاته؟!

** لا...

* هل اختفت حقيبة سفره من الشقة؟

** لا فهي موجودة... كما هي!

 

رضا حي يرزق

أخطر تطور في لغز اختفاء الكاتب الصحافي رضا هلال حصل يوم 9 أغسطس 2009، أي بعد ست سنوات من الاختفاء المريب، والغريب، والعجيب، وعجز أجهزة الأمن بجلالة قدرها عن كشف هذا اللغز.

أعلن شقيق رضا في هذا اليوم الحار من أيام أغسطس أن أخاه موجود في سجن برج العرب بالإسكندرية... وما زال على قيد الحياة..! وشعر الناس بانفراج في الأزمة بعد صبر طويل وشعاع أمل بعد طول انتظار... وسألوا شقيق رضا من أين أتى بهذه المعلومات، فأجاب: سوف أتقدم ببلاغ أولاً إلى الجهات الرسمية يشمل المعلومة وصاحبها الذي أتى بها إلينا... وترقب الجميع ماذا سيحمل البلاغ الجديد... وبدأت مفاجآت جديدة تتوالى وتحمل اتهامات لنجل الرئيس السابق حسني مبارك... وأخرى لحرم وزير الداخلية... هكذا دخل العنصر النسائي للمرة الأولى في ملابسات أشهر حادث اختطاف لصحافي مصري وعربي.