كنت تحدثت في مقال سابق عن كتاب «تتكسر لغتي... أنمو» للشاعرة نجمة إدريس، وكيف أنها عبرت من العام نحو الخاص، عبر لغة شعرية تصطنع جماليتها، وفي الوقت ذاته تتدثر برداء الحدث التاريخي، الذي هو جزء أساس من فن كتابة السيرة الذاتية.

Ad

أجدني مشدودا بشكل خاص إلى تلك المقالات المتعلقة بمرحلة التعليم الأولي، أوائل الستينيات من القرن المنصرم، وكيف أن الشاعرة شهدت تلك المرحلة وتفتّق وعيُها الطفولي بكامل نقائه وصفائه، على أحداث تجسد بداية نهضة الكويت العلمية والثقافية، فالمدارس كانت في أوج جمالها، وأناقتها، تقول الشاعرة في معرض وصفها للصفوف الابتدائية وحال التعليم فيها آنذاك:

«ويأتي انبهارنا الأول أمام معمارية مدارسنا الحديثة البناء، والتي كانت آية من آيات الفن المعماري، بأبهائها الفسيحة، وأقواسها ومشربياتها، وأرضياتها الرخامية الصقيلة، وأفيائها الظليلة، وحدائقها الغنّاء، فضلا عما تنفحه أجواؤها من عبق يُشعر بالرفاهية والرعاية والأنس والدعة».

وتمضي متسائلة عن مصدر هذا الشعور المبهج: «لا تدري من أين يأتيك الشعور بالطمأنينة؟! أهو الانتماء إلى مؤسسة كانت تتبنانا من الألف إلى الياء، حين تبدأ الرعاية المجانية من ملابس الزي المدرسي والوجبة الغذائية الساخنة، مروراً بخدمة التوصيل اليومي بالباص ذهاباً وإياباً، وانتهاءً بتوفير الكتاب والدفتر والقلم الرصاص والمسطرة؟! أم هو جو الدرس ووجوه مدرساتنا حين تمتزج الرصانة باللهو والحزم بمتعة الانفلات وبراءته؟!».

استرجاع الماضي في ما يتعلق بالتعليم خاصة، يبدو حدثا وحديثا ذا شجون، فنحن حين نتأمل حال التعليم أيامنا هذه، وكيف أنه تراجع من حيث الشكل والمضمون، نشعر بالحسرة على تلك الأيام، فجميع من عاش جوّ المدرسة، إبان فترتي الستينيات والسبعينيات لابد أن يستحضر تلك الكفاءة العلمية التي كان يتميز بها المعلمون آنذاك، وكذلك الرعاية الحكومية للتعليم من الألف إلى الياء، إضافة إلى الحماسة العلمية التي كان يتميز بها التلاميذ، وذلك الاحترام والإجلال للمعلم الذي كان هو القدوة العلمية والموجه للتلميذ في الوقت ذاته.

تلك المدارس هي التي خرّجت الجيل الأول من مبتعثي الكويت إلى الجامعات الخارجية، وتلك المدارس هي التي صقلت وقدّمت إلينا العديد من أساتذة الجامعة الذين نراهم بكامل ألقهم العلمي وعطائهم الثقافي. وليس التعليم النظامي وحده هو ما يصنع شخصية الطالب العلمية، لذا نجد إشارات ولمحات ذكية من الشاعرة نجمة إدريس عن قراءاتها الخارجية آنذاك، فالمنفلوطي بمؤلفاته الشهيرة، ولغته العاطفية التي تدغدغ الوجدان، حدّ الوله والتعلّق، كان حاضرا بـ»عبراته» و»نظراته»، وهما الكتابان اللذان تربّى عليهما وجدان كل من تفتق وعيه الأدبي للفترة الممتدة بين الستينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، ويأتي بعدهما كتاب «الفضيلة»، وهو مترجم لم يحظ بالشهرة ذاتها للكتابين الأولين، إلا أنه كان حاضرا في مكتبات محبي الأدب العربي وقرّائه.

كانت الكويت في تلك الفترة متصلة بالحراك الثقافي في الوطن العربي لاسيما في مصر، التي احتضنت صالون العقاد، و»ضوضاء» مي زيادة، وكذلك النقاش المحتدم، والجدل الذي كان يثيره طه حسين أينما حلّ، سواء بشخصه أو مؤلفاته، كل ذلك حاضر إلى جوار أدباء المهجر، ونجومية جبران خليل جبران، الذي كان مبدعا عالميا بنكهة عربية.

فضلت الشاعرة اختيار لمحات عابرة من كل ذلك الزخم الثقافي والفكري، متوقفة عند مي زيادة، وعلاقتها بجبران خليل جبران، وما انتهت إليه حياتها من تراجيديا إنسانية، وإبداعية. وبعدها تنتقل إلى مرحلة الدراسة الجامعية، ومن ثم البعثة الدراسية، وتخلّق وعيها الشعري، ونموه، وما تبع ذلك من مشاركات شعرية خارج الكويت، وصدور دواوينها الشعرية، والحالة الفنية التي تنتظم كل ديوان على حدة. كما أنها تتوقف عند أجواء العمل الأكاديمي، وما يتخللها من شروط بحثية توصف بأنها صارمة عند الأوساط الجامعية إلا أنها تساهم في عزلة الأستاذ الجامعي، وبالتالي «خنق»، جهوده بدائرة ضيقة، قد لا تكون حميدة أو مستحبة في كل الأحيان.

تلك كانت وقفة سريعة على مقالات أدبية تتضمن الكثير من الأحداث، والجمال اللغوي، والذكرى التاريخية العبقة.