في عام 1929، أغلق وزير الخارجية الأميركية هنري ستيمسون الدائرة المختصة بفك الشفرات في وزارة الخارجية بمبرر مقتضب شهير: "أيها السادة، لا تقرؤوا رسائل أحدكم الآخر".
تعم أوروبا اليوم حالة من الاضطراب بسبب ما كُشف عن مراقبة الولايات المتحدة الرسائل الإلكترونية، الاتصالات عبر برنامج Skype، ومعظم الاتصالات الخلوية في سعيها المتواصل إلى الإمساك بالمجرمين، ولكن مقابل كل إرهابي ومجرم، هنالك مليون مواطن نزيه (وربما بعض السادة) يشعرون بانزعاج كبير، إن لم نقل غضب عارم، لأن خصوصيتهم أُلغيت، على ما يبدو، خلال عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما.لا شك أن الكثير من هذا الغضب مصطنع، فعندما كنت وزير الشؤون الأوروبية خلال عهد توني بلير، أُعطيت توجيهات واضحة بالامتناع عن استخدام هاتفي الخلوي في باريس لأن نسخة عما قد أقوله ستكون على مكتب وزير فرنسي في غضون 15 دقيقة.تجاهلت هذه النصيحة، لا لأنني شككت في صحتها، بل لأنني لم أجد طريقة أكثر فاعلية لنقل آراء الحكومة البريطانية إلى الفرنسيين. رغم ذلك، دان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند التنصت الأميركي المزعوم، ذاكراً: "لا نستطيع أن نقبل بسلوك مماثل من شركائنا وحلفائنا". وألمح وزير التجارة في حكومة هولاند أيضاً إلى أن هذا التصرف قد يهدد المفاوضات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشأن التجارة عبر الأطلسي، التي يُفترض أن تنطلق الأسبوع المقبل. ولكن من الواضح أن باريس نسيت محاكمة نحو 12 مسؤولاً من الإليزيه عام 2005 لأنهم قاموا بطلب من الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بالتنصت على الاتصالات الهاتفية لعدد من الخصوم السياسيين والصحافيين في ثمانينيات القرن الماضي.يبرز خبث الفرنسيين التقليدي من خلال استغلالهم هذه الفرصة لردّ الصاع لواشنطن، التي كانت قد طلبت من فرنسا أن تنهي ما دعته سياسة "الاستثناء الثقافي". تضبط هذه السياسة استيراد الأفلام وتسجيلات الفيديو الأجنبية وتدعم الإنتاج المحلي بغية الحفاظ على قطاع الأفلام الفرنسي. كذلك أمّنت هذه التسريبات غطاء لهولاند، الذي تزداد سياسته الاقتصادية تقشفاً أسبوعاً بعد أسبوع، فقد أبعدت مهاجمة الولايات المتحدة (التي لطالما اعتُبرت هدف فرنسا المفضل للانتهاكات السياسية) الأنظار عن غضب اليسار المتنامي في فرنسا بسبب اتجاه الرئيس الفرنسي ببطء نحو السياسات الاقتصادية الوسطية.لكن هذا الغضب، مهما علا، لا يستطيع أن يخفي واقع أن فرنسا بعيدة كل البعد عن مفهوم السادة الذين خاطبهم ستيمسون. ففضلاً عن عمليات التجسس الرسمية، تُعتبر فرنسا موطن عدد من شركات التنصت العالمية، مثل Amesys. باعت هذه الشركة، التي شكّلت جزءاً من مجموعة المعلوماتية الفرنسية العملاقة Bull، برنامجها لتحليل العمليات عبر شبكة الإنترنت إلى الزعيم الليبي معمر القذافي عام 2007. ولا تزال Amesys تواجه حتى اليوم تهماً بتسهيل عمليات التعذيب وجهتها إليها منظمة غير حكومية تعنى بحقوق الإنسان.لكن فرنسا ليست الوحيدة التي دانت ادعاءات التجسس، فقد استدعت برلين السفير الأميركي لتعبّر عن استيائها، في حين طالب رئيس البرلمان الأوروبي، الألماني مارتن شولتز، بمعرفة الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تعامل أوروبا "كما تعامل قوة معادية". رغم ذلك، تشتهر وكالة الأمن الألمانية BND) Bundesnachrichtendienst) بتسريبها ما تعترضه من اتصالات إلى الصحافيين لتفضح من تريد من بين أهدافها. على سبيل المثال، يقتبس الإعلاميون الصرب دوماً من مصادر هذه الوكالة، ويمكننا ملاحظة ذلك في موقع ويكيبيديا على شبكة الإنترنت، حيث تشكّل هذه المصادر جزءاً من حملتهم لتشويه صورة رئيس وزراء كوسوفو، هاشم ثاتشي، من خلال الادعاء كذباً أنه كان يدير عملية خاصة لجمع الأعضاء البشرية خلال حرب كوسوفو بين عامَي 1998 و1999.خلال كل هذه المعمعة، ظل البريطانيون صامتين، مع أن الصحيفة البريطانية The Guardian هي التي نشرت الخبر عن إدوارد سنودن وحملت مهووس الكمبيوتر هذا على الهرب إلى المنفى، متنقلاً من بلد مستبد إلى آخر. ولعل سبب هذا الصمت قيامهم هم أيضاً بالتنصت على بعض الأصدقاء. على سبيل المثال، ذكرت The Guardian أخيراً أن البريطانيين تنصتوا على مَن شاركوا في قمة مجموعة العشرين عام 2009 في لندن، بمن فيهم أوباما، حسبما يُفترض. فخلال عهد رئيس وزراء حزب العمال آنذاك، غوردون براون، تعرضت أجهزة البلاكبيري الخاصة بالمسؤولين الزائرين للقرصنة. كذلك أُقيمت مقاهي إنترنت وهمية بغية الولوج إلى العناوين البريدية الإلكترونية الخاصة.منذ بدء فضيحة سنودن، أرسلت الحكومة البريطانية إشعارات إلى محرري الصحف تطلب منهم فيها ألا ينقلوا تفاصيل عمليات أمينة. وقد سرّهم ذلك لأنهم تفادوا الترويج لسبق صحافي حققته صحيفة منافسة. نتيجة لذلك، كانت The Guardian الصحيفة الوحيدة التي اهتمّت بهذا الخبر، هذا إن لم نذكر قراءها اليساريين الليبراليين المستعدين لتصديق أي خبر سيئ عن الولايات المتحدة.تحوّل خبر تنصت الولايات المتحدة على اتصالات المفوضية الأوروبية، ومجلس الوزراء، والبرلمان إلى مدعاة للضحك. فلا يتردد السياسيون الأوروبيون، الذين يكثرون الكلام ويبحثون دوماً عن آذان صاغية، في سرد كل أخبارهم خلال تناول الغداء كل يوم في بروكسل ولكل مَن يعرب عن أدنى استعداد للاستماع إليهم. ولا شك أن فكرة محاولة أميركي بائس فك شفرة لغة الاتحاد الأوروبي تبدو لمعظم الأوروبيين عقاباً أسوأ مما قد يلقاه سنودن في المنفى.لكن المؤسف بالنسبة إلى أوباما أن لهذه المهزلة تداعيات سلبية تسيء إلى صورته. فرغم زيف التنديد الأوروبي، كان لتسريب عمليات التنصت الواسعة هذه أضرار بالغة، فقد فاقمت، مع الإخفاق في إقفال سجن غوانتنامو واستخدام الطائرات بدون طيار للقضاء على أهداف مختلفة، خيبة الأمل الأوروبية الواسعة تجاه رئيس كان يُفترض أن تسم عملية انتخابه التاريخية عام 2008 انفصالاً تاماً عن الماضي. نتيجة لذلك، كثر اليوم استعمال المصطلح "أوبابوش".تبتعد أوروبا مرة أخرى عن الولايات المتحدة. فيبدو أن الولايات المتحدة بدأت تخرج من مأساتها الاقتصادية، التي مُنيت بها بعد عام 2008. في المقابل، ما زالت أوروبا بكل دولها، سواء انتمت إلى منطقة اليورو أو لا، متعثرة، على غرار اليابان قبل 20 عاماً. بالإضافة إلى ذلك، تصطدم الخطط الأميركية لتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة (الذي بات ممكناً بفضل التقدم التكنولوجي في مجال الغاز الصخري "الأردواز") بسياسات حماية البيئة الأوروبية المناهضة لتقنيات التكسير الهيدروليكي. كذلك فإن الاستدارة الأميركية نحو آسيا تجعل أوروبا خائفة على مستقبل أمنها في وقت تعاني فيه وزارات الدفاع في أرجاء القارة المختلفة اقتطاعات كبيرة في الموازنة. كتبت مجلة Economist أخيراً على غلافها: "عودة الولايات المتحدة". أما اقتصادات أوروبا وسياساتها فتشبه على الأرجح بعض شخصيات رواية "البؤساء".طوال عقود، اشتكى الأوروبيون من أن الولايات المتحدة لا تصغي إلى حلفائها الأوروبيين. لكن فضيحة سنودن تكشف اليوم أن الولايات المتحدة بدأت تستمتع أخيراً لما تقوله أوروبا، وإن بطريقة مختلفة عما أملته. لكن التجسس على الأصدقاء لا يُعتبر، رغم ذلك، من شيم السادة.Denis Macshane
مقالات
اهدؤوا.... أيها السادة!
08-07-2013