حنّا حيمو في «الهواء ثلثا زجاجتي... ونديمي البحر»... للكلمة حصّتُها من الجمال

نشر في 08-05-2013 | 00:01
آخر تحديث 08-05-2013 | 00:01
No Image Caption
{الهواء ثلثا زجاجتي... ونديمي البحر} عنوان جديد حنّا حيمو الشعريّ المنطوي على كثير من العبثيّة والمرارة، فالهواء المتشكّل إناءً لا رنين له إلاّ محتكّاً بصدر موجة عارية، وما الهواء والبحر سوى حكاية تشرّد وسفر لا ينتهي تحت سماء طاعنة في الوحدة والقلق.
ثمّة رابط قويّ بين ما يحصل في شرقنا اليوم من تراكم للكآبة وتنامٍ للفجيعة وبين النصّ الأدبيّ الحديث الذي يظهر وكأنّه مُصرّ على تبنّي أحزان الحدائق بعد العاصفة، وعلى الوفاء للّحظة الإنسانية المضرّجة بأحلامها، المتوّجة بسحابة الدم.

صحيح أن ضمير المخاطب سيّد النصّ الأوّل {غيابُك} في كتاب {الهواء ثلثا زجاجتي... ونديمي البحر} بقلم حنّا حيمو، إلاّ أنّه يبدو ظلاًّ أصيلاً لضمير المتكلّم، وكأنّ حيمو يوقف ذاته أمامه ليصير اثنين لا بدّ من حضورهما كليهما لحوار أو خطاب مفترضَيْن، ويُطلق لغتَه ذات الرمزيّة الخاصّة والصورة التي تحترم ذاتيّتها وخصوصيّتها على امتداد النصوص:

{كممالك الضباب تزول

تدخل سراديب السفر البطيء

كالحصى على قارعة طريق تُذْرَف

فلا غد يمرّ فوقك

ولا سنة جديدة تختزن آلامك}.

هكذا ينسج حيمو طقس الغياب، يلوذ بهشاشة الضباب ليقبض على زواله، ويحرص على الإقامة خارج الزمن كي تموت طريق آلامه إلى ذاكرة الأيّام، فيستمر مصلوباً على ذاته، إذ إنّ بعضاً منه صليب والبعض الآخر مصلوب، ولا بدّ لاكتمال الصليب من وقت وغبار كثيرَين:

{أنتَ... والوقت والغبار

ثالوث المنفى الذي عليه ستُصلَب}.

ويتّضح من سياق البوح المتشابه إيقاعاً كأثلام الحقل أنّ المنفى المتحدَّث عنه هو جغرافية قسريّة حين يغيب الوطن عن المشهد الشعري ليحضر في الظلال.

وإلى الفكرة يذهب حيمو ذهاب المشتاق إلى وطن، يستوطن أفكاره، يشدّ على يد المعاني لتسكب في عطشه قليلاً من ماء الطمأنينة:

{جاثياً في عراء الفكرة

 أمتحن اليباس

 وأصغي للخراب الذي يتناسل}.

أيّ خراب هو المتناسل في خاطر الشاعر الشريد؟ هل هو خراب الذات الوجودي لإخفاقات وخيبات كلاسيكية الحضور في كلّ البشر، أم هو خراب الوطن السائر نحو نهايات مجهولة تكاد هي لا تعرف نفسها؟ أم هو خراب الذات والوطن معاً باعتبارهما لا ينفصلان عند طريق إلاّ ليلتقيا عند آخر؟!

في نصّ {تأمّلات غريب}، يقترب حيمو من المباشرة أو التصريح المطلوبَين بحدّ أدنى كمفتاح ينجّي القارئ من الصّلب على باب الغموض:

 {على مضض

 وبكلتا يديّ

أسند رأسي

المزدحم بأهلي الغائبين}...

فهو المشرّد من ذاته وإليها، والضنين بأهل يحاول خاطرُه انتزاعهم من يد الغائبين، كأنّ كلّ شيء صار إلى عدم وبقيت الذاكرة وحدها تتّسع للمطارح، وللناس، وللزمان والمكان اللذين أساءا إليهم:

{ممتلئٌ بشكر مرير

لذاكرة

 أُصلب

 على جذعها

 كلّ صباح}.

وكم هو موفّق حيمو حين يمدّ يده إلى أعماق خساراته ويعلن أنّ اللغة هي آخر ما يغادرها في أزمنة النكبات:

{... لأكتشف

 أنّ كلّ ما بقي في قعري

كمشة حروف غريبة

 كنتُ قد ألفْتُها

 حين كانت لغتي تراودني عن نفسي}.

أسير المفردات

من الواضح أنّ حيمو أسير مفردات معيّنة ترافقه من نص إلى آخر وربّما تبرّر الحالة الشعوريّة تكرارها، غير أنّ باستطاعة الشاعر أن يراقب قاموسه إذا أراد ذلك عن سابق قصد فيلجأ إلى البديل لغويّاً، ومن المفردات المتكرّرة: الذاكرة والغياب والصّلب... أمّا على مستوى الجدّة والإبداع، فإنّ حنّا حيمو ينحت جملة خاصّة وفيّة لوجعه، ويأتي بالصورة القادرة على إحداث الدهشة، ويعرف كيف يمضي إلى كلّ فكرة بمجاز يناسبها كما في نصّ {إلى لمى: أختي}، حيث احتراماً للعاطفة، وأمام غياب أخته ذات الثماني سنوات وهي تبحر في علبتها البيضاء الأنيقة إلى ما بعد الغياب تنازل حيمو عن المجاز الصعب وأدّى جملة تضيء العاطفة رمزيّتها الشفّافة:

{... وفي عتمة النسيان المؤقّت

 تذكّرتُ: في تابوت أبيض

 طوله متر

تمدّدت فيه ابنة الثماني سوسنات

 تركت قلبي راقداً بجوارها

يحرس غيابها

 وأنزلتُهما في حفرة صغيرة

 أهلتُ فوقها البنفسج

 وتركتُ الحفرة مشرعة

 في صدري!}.

كذلك في نصّ {عن الأسماء أخبركم} يبدو حيمو أمام الحدث الجلل ميّالاً إلى رمي سهام لغته من قوس مجاز لا يضيّق على المعنى ولا يرتشف زبدَه:

{اسمي حنّا!

 عاشت الأسامي

 ومات أصحابُها

 مباركٌ ابنُكِ

يعيش

ليحمل اسمَه صليباً على كتفيه

... باسم الشعب نحرق اليوم سوريا

 والشعب}...

الانكسار سمة لافتة من سمات نصوص حيمو، وقد يكون التشاؤم الآوي إلى صدره أقرب إلى الواقعيّة الموشومة بالنار والموت، لذلك لا يبدو شارب الهواء في مضافة البحر بعيداً من نبض الحقيقة وهو يقول:

{لست أفهم المغزى

 من احتفاظنا بالأمل

 في جيوب الأكفان

 إذا كنّا نعلم سلفاً

 بأنّ الدود الأبيض سيقرضه}.

ويأتي نصّ {نحن الغرباء} ليقدّم بطاقة تعريف تجتاز شخص حيمو إلى قومه وأهله الذين لا إمكانيّة لتشرّدهم من رأسه ولا مجال لخروجهم من دائرة الغياب المقفلة:

{من ذكريات مثقوبة بالرحيل

يصنع الغرباء بوصلة خيباتهم

 نجول الزّرقة

بحثاً عن عيون نعرفها}...

إنّه التشظّي البشري، كلّ إنسان مضى إلى مكان جديد ليشحذ منه الحياة، وإلى أبديّة جديدة، والعين أمست تطارد مسافات الزمان والمكان رغبة في الوصول إلى عين سبق أن مرّت بها على بساط النّظر. وفي متاهة الجوع والعطش الوجوديّين يضجّ صدر الريح بالسنابل وتتدلّى من علياء التّيه. وفي العاصفة التي تسابق ظلالها لإذلال برج الرّوح ونثر حجارته في وديان الحزن السحيقة، يغدو الإنسان وحزنه اثنين يقتسمان الصقيع وما تسخو به المواقد من أحلام:

 {في زحمة العاصفة

 نقتسم

 نحن وحزننا

 البرد وحلم المدفأة}.

ويعصف الغضب الدفين في صدر حيمو ليريه: الضوء بصقة النهار / في وجه الليل... والزمن ليس أكثر من سفر مائي كارثي فيصير البحر ساعة ماء تخصّ الغرباء وحدهم: {الموج / ثواني البحر / واحدة تلو أخرى}، وحين لا بدّ من نهاية فإنّ الغرباء يستعينون بخشب مراكبهم ليصنعوا العُلَب الحزينة الكلاسيكيّة والضروريّة لإثبات الموت شكليّاً: {من حطام المراكب / يصنع الغرباء توابيتهم}.

في {الهواء ثلثا زجاجتي... ونديمي البحر} حنّا حيمو صاحب نَفَس خاصّ تنضح به النصوص على امتداد صفحات الكتاب. وهو قادر على الصورة الجديدة، والرمزيّة التي تتجنّب الوضوح المبتذل والمستهلك بقدر ما تتجنّب الغموض المنفِّر. بالإضافة إلى أنّه يعرف كيف ينجو من الثرثرة بغربال لغويّ دقيق، وكيف يدلّ الكلمة على حصّتها من الجمال في قلمه.   

back to top