على رصيف الجادة الثامنة في برودواي، في مدينة مانهاتن، حيث قلب نيويورك النابض بالمسارح والعروض الفنية والمتاحف، وكذلك عربات الهوت دوج "الحلال"، وحيث كانت تنشط المافيات قبل عقود من الزمن، كما تقول البروشورات السياحية لمدينة نيويورك، وبالقرب من "التايمز سكوير" الشهير، كانت تجلس تلك العجوز الثمانينية تبيع بعض الكتب المستعملة والتحف واللوحات القديمة.

Ad

استوقفتنا لوحة نحاسية قديمة من ضمن ما كانت تلك العجوز قد وضعته على طاولة صغيرة قديمة متهالكة، وعلى مساحة من الأرض من حولها معروضة للبيع أمام المارة المستعجلين على الدوام.

التقطنا اللوحة نتأملها، فالتقطت العجوز طرف الحديث معنا بلا تردد بروح شابة نابضة وكأنها في منتصف العشرينيات، سألتنا عن بلادنا فأخبرناها، فانطلقت للحديث عن الأوضاع السياسية في المنطقة، وعن الضربة الأميركية المحتملة لسورية، حيث كانت الأخبار وقتها تتحدث عن النقاشات الدائرة في مجلس الشيوخ وفي الإعلام الأميركي عن تأييد تلك الضربة في الداخل الأميركي ومعارضتها.

من الكثير الذي قالته تلك العجوز حول الموضوع، أذكر عبارة رشيقة لها أدهشتني. قالت إن أوباما ينظر إلى المسألة من زاوية أخلاقية إنسانية في حين أن ماكين ينظر إليها من زاوية عسكرية، ولكنهما يلتقيان في النهاية!

بعيداً عن صحة هذه "التحليلات السياسية" لتلك العجوز الثمانينية وقيمتها، يظل المثير في المسألة أن يكون لمثل هذه الإنسانة البسيطة هذا الاهتمام والاطلاع، في تلك المدينة الكونكريتية التي يغرق فيها البشر في دوامات حياتهم الشخصية، سعياً وراء لقمة العيش وكفاحاً لأجل البقاء على قيد الحياة!

ويبدو أن العجوز قد لاحظت استغرابنا من هذه الجزئية، فقالت بسرعة: حين أحدث أحداً عن الشأن السياسي فيجيبني بأنه لا يهتم بالسياسة أبداً... أقول له دائماً: هل أنت على قيد الحياة؟!

ولعل هناك من لن يتفق مع هذه الفيلسوفة العجوز في هذه الجزئية بالذات، أعني جزئية ضرورة الاهتمام بالشأن السياسي، ولكنه يظل مثيراً جداً أن يكون لمثلها هذا الاهتمام، بل ذلك التعليق العميق الذي تجاوز الأخبار المجردة الممكن الحصول عليها من مانشيتات الصحف إلى ما وراءها.

آخر ما قالته تلك العجوز لنا قبل أن نودعها هو أنها تتمنى زيارة الكويت في يوم من الأيام، لترى تلك النواحي الفريدة من العالم. دفعنا قيمة اللوحة، وشكرناها على ذلك الحوار الجميل وتمنينا لها السعادة دائماً، وسرنا بعيداً نحمل لوحة نحاسية جميلة، قالت لنا العجوز إنها كانت معلقة فوق سريرها منذ أربعين عاماً، وذكرى جميلة اختزناها في تلافيف الذاكرة، وكثيراً من الأفكار والابتسامات.