من الذاكرة : الملاريا

نشر في 29-07-2013
آخر تحديث 29-07-2013 | 00:01
 صالح القلاب كان يتابع "عنكبوتاً" يقيم بيته فوق أعواد القصب على سقف الغرفة الطينية من الأسفل، وبين فترة وأخرى كان يحاول رفع يده المنهكة الضعيفة ليمسح دمعة تتسرب من زاوية عينه الملتصقة بأريكة بالية أصبحت بلا لون مع الزمن ومن كثرة تراكم الأوساخ... حاول... وحاول لكن يده كانت تخذله دائماً، وكان في كل مرة تخذله يده فيها يخرج من صدره المحشو بالأحزان والأمراض والبلغم أنيناً خافتاً وتأوهات تمزق الأحشاء.

إنه لم يغادر هذا الفراش الذي يتمدد فوقه، وهو بين الحياة والموت، منذ أكثر من ثلاثة هلالات... كانت زائرة الليل تعركه في كل ليلة عرك الرَّحى بثفالها... فتصطك أسنانه ويرتجف بدنه ويزداد لونه اصفراراً وشحوباً... فلا يأتي الصباح إلا وهو في آخر الأنفاس.

كانت الليلة الماضية أطول الليالي وأكثرها وحشية وأشدها قسوة... لقد أناخت عليه زائرة الليل بكلكلها وهرسته بلا رحمة، وكان عندما يستطيع التقاط أنفاسه بعد كل جولة وجولة أخرى يرى من زاوية عينه الدامعة الملتصقة بالهرسة البالية، التي أصبحت بقسوة الحجر الصواني مع الزمن وتراكم الأوساخ، طيوراً أسطورية تحلق حوله فتزداد دقات قلبه وينكمش ثم ينكمش حتى يصبح بحجم جزَّة صوف كبيرة عندما كان أحد هذه الطيور الأسطورية يحاول مهاجمة ظهر يده الصفراء الواهنة التي يضع جزءاً منها تحت صدغه الأيسر.

اشتدت وطأة زائرة الليل عليه وازداد اصطكاك أسنانه، وسرت برودة شديدة في جسده الهزيل الواهن، ثم هاجمته موجة من التعرق حولته إلى ما يشبه الخرقة المبللة... وانقض في إحدى المرات أحد الطيور الأسطورية على شحمة أذنه اليسرى فغرز منقاره الطويل فيها وهو مستسلم للقدر ولا تسعفه يده في الارتفاع قليلاً لطرد هذا الوحش المفترس وإبعاده عن أذنه.

كان عندما ترتد روحه إليه لا يفكر إلا بابنته الوحيدة ذات الثلاثة أحوال، وكان يتخيلها تقف على حافة قبره وهم يهيلون التراب عليه... حافية... مرتعشة وباكية... وفي يدها بقايا "كردوش" من الذرة الصفراء ترفعه بين فينة وأخرى بيد صغيرة متسخة فتقضم منه قضمة... ثم تستأنف البكاء والنواح.

تهامس عُوَّدُه الذين أحاطوا به بعد غروب الليلة الماضية بأن الله سيأخذ وديعته قريباً، وقال أحدهم وهم يخرجون من عنده ويترحمون عليه: "إن هذا الرجل لم يتَّقِ ربه بنفسه... لقد جاء إلى هذا الوادي المخيف وسكنه بمفرده... وبقي يعارك الضباع والذئاب وبنات آوى سنوات طويلة"، وأضاف آخر: "لقد تآخى مع فيل خريسان" وتعاهد معه، ويبدو أنه نكث بالعهد فانتقم منه هذا الشبح الأسطوري فهجم عليه وعركه حتى فتَّتَ كبده وكليتيه.

في الصباح نقلوه محمولاً على بعير، وهو بين الحياة والموت إلى جرش... وهناك طلب منه الطبيب أن يفتح فمه ويمدَّ لسانه، وعندما لم يستطع بادر أحد الذين كانوا معه إلى فتح فمه بالقوة وأمسك بلسانه وسحبه إلى أن تجاوز طرفه الأمامي شفتيه... كان اللسان مغطى بطبقة وخْمةٍ يختلط فيها البياض بالصفرة الحوياء... فَحَصَ الطبيب عينيه نقر بسبابته فوق بطنه المنتفخ الذي كان يتمدد ويتقلص ويرتفع ويهبط بصعوبة.

انتحى الطبيب بشقيقه الأصغر جانباً... وأبلغه أن الأمر قد انتهى... وأن المسألة ليست مسألة فيل خريسان ولا يحزنون إنها الملاريا... وانه البعوض... الذي يتكاثر على نحو غير مسبوق على ضفتي سيل الزرقاء في السنوات الأخيرة، لأن أحد الملاكين الكبار، وهو وافد جاء إلى المنطقة في ثلاثينيات القرن الماضي، قد استبدل زراعة القمح والذرة الصفراء بالأرز، وحوَّل السهول الزراعية المحيطة بمجرى سيل الزرقاء إلى مستنقعات غدت ملائمة لتكاثر هذه الحشرة اللعينة.

back to top