مأزق المرأة الشاعرة (3)
لعل ملمح كراهة صدور الشعر من المرأة يزداد رسوخاً حين نتأمل ملياً في جوازات المرور التي مُنحتْ للشهيرات من الشواعر، لنكتشف أن تلك الشهرة لم يكتسبنها من قولهن للشعر (المكروه صدوره منهن ثقافياً واجتماعياً)، بقدر ما اكتسبنها من متعلقات أخرى لها صلة بموضوع الشعر، وأن هذه المتعلقات كان لها من الحضور ما يفوق الاهتمام بموهبة الشعر لديهن!فالخنساء التي لم يكن هذا اسمها ولكنه لقب تحجّبت به، واسمها الحقيقي (تماضر)، وهو اسم لم يك مسموحاً تداوله بين الناس حسب الأعراف، هذه الخنساء لم تكتسب شهرتها لسمات شعرها الأنثوية المختلفة والخاصة، وإنما اكتسبت هذه الشهرة كونها أختاً لصخر سيد القبيلة وفتاها. ولا شك أن صخراً علا شأنه وسطع ذكره وخلُد نتيجة كونه موضوعاً للخنساء التي تحولت إلى واسطة ووعاء ليس إلا. وما كانت الخنساء لتخلد وتبقى لولا تجييرها في هذا القالب والمنحى (الرثائي النسوي). ثم ازداد تكريس النموذج النسوي في الخنساء بما يخدم النسق الثقافي حين اكتملت صورتها الشعرية وانتهت في إطار الأم الثكلى التي تحولت باستشهاد أبنائها الأربعة بعد الإسلام إلى نموذج للمسلمة الصابرة المحتسبة، أي إلى نموذج أكثر مهادنةً وامتثالاً للدور المرسوم للمرأة سلفاً في منظومة الثقافة والمجتمع. ولعل الحديث السابق حول تصرف الرواة في شعر الخنساء وحجب ما يشاؤون منه، وتحوله من ثمَّ إلى شعر مقطوعات يدلل بوضوح على مسألة القولبة والتشذيب و(القصقصة) التي يتعرض لها شعر المرأة لتأتي قامتها الشعرية على قدر ما رُسم لها من هيئة ودور.
وتأتي ليلى الأخيلية نموذجاً آخر للتدليل على هذا المزاج الثقافي الضاغط، إذ توحي الروايات بأنه لن تُتَح لها فرص القبول والاستماع في مجالس الخلفاء والولاة إلا بعد وفاة حبيبها توبة بن الحمير التي قالت فيه معظم شعرها، أي بعد تحوّلها من (عاشقة) إلى (راثية)! مع الأخذ بعين الاعتبار أن ذلك لم يتم إلا بعد مرور السنوات وتقدمها في العمر. وبذلك لم تتمكن ليلى الأخيلية من فرض شاعريتها إلا بعد امتثالها للشرط الثقافي، وهو الحومان في المجال المرسوم لها سلفاً وهو (الرثاء)، مع الإغضاء الواضح عن زمن توهُّجها وفتوّتها الوجدانية بشكل ضمني. ويبدو أن المشهد القديم لوضع المرأة الشاعرة وحرجه وضيق أفقه، لم يصبه شيء من التغيير بدخولنا إلى القرون الوسطى، إن لم يزدد سوءاً. إذ إنه من البدهيات أن سمات أي عصر وظروفه تنعكس بالضرورة في ثقافته وقيمه وخطابه الأدبي. ولم يكن الوضع خلال الفترة آنفة الذكر – كما هو معروف – يعكس غير مظاهر الوهن والاضمحلال حضارياً وثقافياً. وإن كانت بعض المصادر التي تؤرخ للأدب في هذه المرحلة قد سمت هذا العصر بعصر الانحطاط الأدبي، لتشير إلى الانحراف والإنهاك في المشهد الأدبي عامةً، فلنا أن نتصور حينها مدى التدهور الذي يمكن أن يلحق بالمرأة في مجتمع استسلم لأسباب الوهن والجهل والتخلّف والانقطاع عن ركب الحضارة، والاستسلام لقوى السيطرة والاستغلال. إن الانحطاط الاجتماعي والحضاري الذي أصاب الرجل سيقود إلى انحطاط المرأة بصورة أفدح، فيزداد الحرج والقهر والعَنَت، وتتعاظم القيود وتتغلّب الأعراف والعادات على الدين، وتضرب عليها حُجُب الجهل والعزلة. ولعل خير ما يمثل وضع المرأة إبان هذا العهد المظلم ما جاء على لسان قاسم أمين (1863م – 1908م) في كتابه الشهير «تحرير المرأة»، حين فنّد ما تعكسه أحوال القرن التاسع عشر وما سبقه من استلاب لكينونة المرأة وإنسانيتها، يقول: «عاشت المرأة في انحطاط شديد، أيا كان عنوانها في العائلة، زوجة أو أماً أو بنتاً، ليس لها شأن ولا اعتبار ولا رأي، خاضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امرأة، فني شخصها في شخصه، ولم يبقَ لها من الكون ما يسعها إلا ما استتر من زوايا المنازل. واختصّت بالجهل والتحجب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعاً للذة، يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطريق متى شاء. له الحرية ولها الرق، له العلم ولها الجهل، له العقل ولها البله، له الضياء ولها الظلمة والسجن، له الأمر والنهي ولها الطاعة والصبر، له كل شيء في الوجود، وهي بعض ذلك الكل الذي استولى عليه»! ويبدو للمتمعن في مشروع قاسم أمين التنويري للنهوض بالمرأة، أن آفات ذلك العصر في ما يخص التعامل مع المرأة لم تقف عند حد ضرب الحجاب على وجهها التي أباحت الشريعة إظهاره، أو الحجر عليها رهينة في بيت لا تبارحه إلا إلى الزوج أو القبر، وإنما امتدّ ذلك إلى حرمانها من حق التعليم والعمل. فقد «كان الناس لا يزالون يعتقدون أن تربية المرأة وتعليمها غير واجبين، بل انهم يتساءلون هل تعليم المرأة القراءة والكتابة مما يجوز شرعاً، أو هو محرم بمقتضى الشريعة؟».