أزمة أخلاقية
تناولت في مقالي السابق أحد مظاهر التناقض بين الخطاب والممارسة، والمتمثل في الانحرافات الأخلاقية المنتشرة في المجتمع والمقبولة اجتماعياً في نفس الوقت، تلك التي يعانيها طلبتنا في الجامعة، إلا أن ذلك التناقض والانحراف الأخلاقي لا يختص فقط بالطلبة، بل هو ظاهرة مجتمعية.في الوقت الذي يتغيب فيه البعض عن العمل دون عذر ويتلقى فيه البعض الآخر أجوراً دون عمل ويُسجَّل آخرون في شركات وهمية لتلقي دعم العمالة تتعالى أصوات نفس الأشخاص مطالبة بتطبيق القانون واحترام الدستور وتحقيق العدالة.
وفي الوقت الذي يمارس فيه البعض التحرش الجنسي ضد المستضعفين من أطفال أو عمالة منزلية ويحاول البعض استدراج الفتيات إلى ممارسة الرذيلة ويجبر آخرون بناتهم القاصرات على الزواج، تتعالى نفس الأصوات دفاعاً عن الشرف والفضيلة، مطالبة بفصل الطلاب عن الطالبات في قاعة المحاضرة وتطبيق قانون الحشمة. وفي الوقت الذي تباع وتشترى فيه الأصوات الانتخابية ويُنتدَب البعض من سكرتارية النواب إلى المجلس بهدف التمتع بإجازة مدفوعة الراتب دون القيام بأي عمل، ويسعى آخرون إلى توسط النواب والحصول على استثناءات ومزايا غير قانونية تتعالى نفس الأصوات لمحاربة الفساد وحماية المال العام. والواقع يشهد أمثلة تفوق بكثير ما تم ذكره، والكل دون استثناء يدافع عن الفضيلة وينبذ الرذيلة.حالة من الانفصام يعيشها البعض بين ما يطالب به وما يمارسه في حياته اليومية، ونترك تشخيص هذه الحالة في جوانبها النفسية إلى المختصين في علم النفس. ما يهمنا هنا هو التناقض الأخلاقي الذي يعانيه الكثيرون، فلا يعقل أن تنتشر المظاهر السابقة الذكر وتصبح مقبولة اجتماعياً ومتوقعة لدى البعض لدرجة الاستحقاق، حتى إنهم يطالبون بها دون استحياء في الوقت الذي تنحصر فيه مظاهر الفساد الأخلاقي في تدخين الشيشة ولبس المايوه وحضور الحفلات الغنائية وقاعة المحاضرات المختلطة.ثمة مشكلة أرى أنها تتمثل في أمرين مهمين، أولهما هو جهل الكثيرين بمعنى الأخلاق ونطاق الفعل الأخلاقي، وما الذي يحوّل أي سلوك إلى قضية أخلاقية، وهذا الجهل هو سبب إطلاق البعض أحكاماً أخلاقية على بعض السلوكيات الشخصية التي لا علاقة لها بالأخلاق، والعكس صحيح من تبرير لبعض السلوكيات غير الأخلاقية، لأنها سائدة ومقبولة اجتماعياً. والثاني هو غياب ما يسمى الوعي الأخلاقي، وكذلك منطق صنع القرار الأخلاقي، وهذا سبب التناقض بين الأقوال والقناعات وبين الأفعال والممارسات. ولنا وقفة تفصيلية حول هذا الموضوع في مقالات قادمة.والسؤال الذي يطرح نفسه هل نعاني من فساد السلطة فقط أم أنه فساد مجتمعي؟