صانع البهجة... سيد مكاوي (19): قصة حب

نشر في 28-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 28-07-2013 | 00:02
كان للشيخ سيد مكاوي الفضل، بل السبق في وضع القاعدة لمقدمات المسلسلات الإذاعية، وقد راعى في تلحين هذه المقدمات أن يكون الغناء بشكل كوميدي، وأن تتمتع الموسيقى؛ قبل الكلمات والأصوات، بخفة ظل، يمزج فيها بين بساطة النغم وعمق الفكرة التي يريد أن يوصلها إلى المستمع، عبر تمهيد الأجواء للدخول في أحداث المسلسل الإذاعي، وهو فن أتقنه الشيخ «سيد» وبات فارسه الأول غير مدافع.

لذلك انهالت العروض على الشيخ «سيد» تطالبه بتلحين كثير من مقدمات المسلسلات الإذاعية، لذلك كتب له صديقه صلاح جاهين، كلمات شارة المسلسل الثاني «مذكرات المعلم شعبان» بطولة الفنان محمد رضا، وسناء جميل، وتوفيق الدقن، يرويها الفنان الشعبي ذائع الصيت محمد طه، وتقول كلمات الأغنية:

بعد الصلاة ع الزين وكان يا ما كان

كان فيه أسد... والاسم كان شعبان

طويل عريض.. لو دب أيده في حيطة

يقدر يسلم بيها ع الجيران

وله شنب تقف عليه... هليكوبتر

مش بحر سياب وغيره زمان

إن كان عنيف... يا ما دبح بسنانه

سنة 19 جنود بريطان

ويا ما هد معسكراتهم يا ابني

لهاليبها تبان م الهند واليابان

واد ابن جن صحيح.. لكن يا خسارة

فتى همام... ويا قلة الفتيان

صابه اللي صابه واللي نابه نابه

وكان يقول: الشدة للجدعان

يا ميت ندامة الشدة فضلت شدة

عليه لوحده وغيره بقى سلطان

جارة عليه الدنيا جورة قوية

وصبح يقاسي الغُلب والأحزان

بس الجدع برضك جدع... يا أهل الله

وابن الأصول طول عمره ما ينهان

شعبان رجع شعبان بتاع الأول

وبدمه قال النصر للشجعان

إزاي وليه هنشوف ونعرف حالا

في حلقات عنه

اسمها «مذكرات... المعلم شعبان»

كانت مقدمة مسلسل «مذكرات المعلم شعبان» بمثابة اكتشاف نُسب للشيخ «سيد»، وهو التتر الإذاعي الذي أصبح فنانه الأول، ومنذ «مذكرات المعلم شعبان»، حصل على براءة اختراع هذا الفن الجديد الذي لم يعد ينازعه فيه أحد، بل سار عليه كل صناع الدراما الإذاعية في ما بعد، خصوصاً أن الشيخ «سيد» دعم ذلك بتجارب أخرى أكثر تطوراً، بأن يجعل هناك ديالوج غنائي على لسان أبطال العمل يقدمون فيه العمل في إطار تشويقي للمستمعين لحثهم على متابعة العمل، مثلما فعل أيضاً في مقدمة مسلسل «شنطة حمزة» التي كتب كلماتها الشاعر عصمت الحبروك، وغناها بطلا العمل أمين الهنيدي والوجه الجديد صفاء أبو السعود، بالإضافة إلى المجموعة:

صفاء: قووووول... قول قول.

الهنيدي: شنطة حمزة.

صفاء: حمزة مين؟!

الهنيدي: صاحب الشنطة.

المجموعة: آه آه.

صفاء: قووول قووول قول

فيها إيه الشنطة داهيا.

الهنيدي: فيها حاجات ياما مخبية.

المجموعة: عايزين نعرف إيه بالذات.

الهنيدي: طبعا... لكن على حلقات.

صفاء: مين اللي كتبها... قولولي قولولي.

المجموعة: عبد المنعم مدبولي.

الهنيدي: طب هي بطولة مين مين.

المجموعة: هي بطولة عمو أمين.

صفاء: أمين... طب عمو أمين دا مين دا مين.

المجموعة: عمو أمين الهنيدي

الشنطة الشنطة الشنطة الشنطة الشنطة الشنطة.

ضيف رمضاني

لم يكتف الشيخ «سيد» في تلحين المقدمات الغنائية للمسلسلات الإذاعية بالتقديم للمسلسل والتعريف به، والدفع بأبطاله للغناء في «التتر»، بل طلب من كتاب الأغاني وضع أسماء صناع العمل من تأليف وإخراج، بل والتلحين أيضا، مثلما فعل في مسلسل «بسطاويسي مسافر ليه؟!» الذي كتبه عباس الأسواني ـ والد الأديب علاء الأسواني ـ وشارك في بطولته عبد المنعم مدبولي وهدى سلطان وعدلي كاسب ومحمد توفيق وعبد السلام محمد، وليلى يسري، وقام بغناء المقدمة هدى سلطان وعبد المنعم مدبولي، ومعهما سيد مكاوي:

كذلك قدم الشيخ سيد ألحان المسلسل الإذاعي «رضا بوند» ـ الذي تحول في نهاية الستينيات إلى فيلم سينمائي بنفس الاسم ونفس الأبطال ـ بطولة محمد رضا وصفاء أبو السعود، كلمات عبد الرحمن شوقي الذي كتب الكلمات بطريقة تبدو أقرب إلى النطق بالإنكليزية باعتباره يقدم النسخة العربية من الشخصية الهوليودية «جيمس بوند»:

صفاء: هاو هاو دو يو دو... رضا بوند فري ول ثانك يو.

المجموعة: فري ول ثانك يو.

صفاء: رضا رضا بوند.

رضا كان معلم وكويستو.

المجموعة: رضا بوند.

صفاء: فجأة آيستو آيستو.

المجموعة: رضا بوند.

صفاء: باع كل ماله وفلستو وقفل الدكان.

سيد مكاوي: سر الحكاية يا خلاني فيلم الجاني سي جميس بوند الأخراني... و»كر الشيطان».

المجموعة: باو باو.

صفاء: رضا قال بادام جميس أتأرنن... أنا هتعزرن أنا هتعزرن.

المجموعة: رضا بوند.

صفاء: واضرب معاه شيتا وطرزان وسي أرسلو باااان

رضا بوند.

صفاء: رضا فونت لبس البرنيطة.

وعمل زيطة وعمل زيطة.

المجموعة: رضا بوند.

صفاء: سايب الزرار جوه الحيطة.

موتوسيكل باو.

المجموعة: باو باو.

سيد مكاوي: يقعد يتكتك في الحارة تيجي طيارة.

يركب ويضرب زمارة... تجري السكان.

المجموعة: باو باو.

صفاء: كل الصبايا يابا بصاله.

وهو ولا ولا على باله

أصل الشجيعة بعتاله

في سرس الليان.

المجموعة: سرس الليان.

صفاء: وهس هس ليسمعنا

واسمعوا معنا.

مكاوي: حلقة لرضا بوند بتاعنا.

هوووووووو س سمع

جونج جونج.

تتر النهاية

صفاء: جود باي بقى الحلقة خلستو.

المجموعة: رضا بوند.

صفاء: وانتوا أنستو أنستو.

المجموعة: رضا بوند.

صفاء: والفونت رضا بوند تويستو بيقول باي باي.

المجموعة: باي باي.

مكاوي: وبكره في معاده يجبلكم وهيحكلكم ساسبينس كوميدي هيعجبكم

وأتفضلوا شاي... شاي شاي.

صفاء: اتفضلوا شاي... وهقول باي باي.

المجموعة: باي باي باي.

أصبح سيد مكاوي ومقدماته الإذاعية للمسلسلات، ضيفاً دائماً على المائدة الرمضانية ينتظره المستمعون، ما زاد من شهرته، ليس على مستوى المتخصصين والموسيقيين، بل الأهم على المستوى الشعبي، لتشعر والدته وأشقاؤه للمرة الأولى بالفخر، بعد سنوات طويلة من العمل المتواصل، وسط الأهل والجيران وأبناء الحي، بل وأيّ مكان تذهب إليه، غير أن أكثر ما كان يرهق والدته هو عندما تفاتحه في أمر زواجه، خصوصاً أنه زوج كل شقيقاته البنات، بل والبنين، وأصبح الشيخ «سيد» على عتبة عامه الثالث والثلاثين:

* أنتِ يظهر عليك زهقتي مني يا أم سيد.

= أنا يا حبيبي عمري ما أزهق... دا أنتَ نور عينيا.

* أحنا هنحمرق ولا إيه يا أم سيد... لو أنا نور عنيكي... هنجيب حد يسحبنا إحنا الاتنين... لكن لما تكوني أنت اللي نور عينيا تبقى المسألة موزونة.   

= أهو أنت كدا... دايماً تقلب كل حاجة بهزار. يا واد أنا بتكلم جد... نفسي أجوزك قبل ما أموت وشوف ولادك... مشتاقة أوي يا شيخ سيد أشوف عيالك أنت بالذات. حاسة أنهم هيبقوا عمري كله.

* إن شاء الله يا أم سيد. ربنا هيدلك العمر لحد لما تشوفيهم. مش إحنا اتفقنا إنك عنينا اللي بشوف بيها. يبقى إن شاء الله ربنا هيديلك الصحة والعمر لحد ما أشوفهم بعنيكي.

وفي ظل محاولات والدة الشيخ «سيد» إقناعه بضرورة الزواج، لم تكن تعلم أن القدر سيحمل لها الحل الذهبي لمشكلة زواج مكاوي، فاهتمام الزعيم جمال عبد الناصر ببناء دولة مدنية متحضرة، وإيمانه بشكل قوي أن ذلك لن يتم إلا عبر الاهتمام بالفنون والثقافة والإعلام، فقد شهد العام 1959، قرارين مهمين له في هذا الإطار، كان لهم أكبر الأثر على حياة الشيخ «سيد» ومستقبله.

دولة الفن والإعلام

تصادف أن شاهد الرئيس جمال عبد الناصر خلال هذا العام فرقة مسرح العرائس الرومانية «سندريكا» وهي تقدم عروضها لأول مرة في القاهرة عام 1958، فطلب من ثروت عكاشة وزير الثقافة، إنشاء فرقة مصرية للعرائس، وطلب أن تقوم الفرقة الرومانية بتدريب عدد من أهم الفنانين المصريين في الورش التي نظمتها الفرقة الرومانية، وقبل مرور عام أصبح لمصر أول فرقة عرائس، وقدمت أول عروضها في العاشر من مارس 1959، الموافق أول رمضان، أمام الرئيس جمال عبد الناصر وثروت عكاشة وزير الثقافة، بمسرحية «الشاطر حسن» في مسرح القاهرة للعرائس، وهو أوبريت سبق تقديمه للإذاعة عام 1937، كتبه بديع خيري، ووضع ألحانه داود حسني، فقدمته فرقة مسرح القاهرة للعرائس للجماهير في سوق القاهرة الدولي في أرض المعارض في الجزيرة، وأخرجه صلاح السقا.

بعد نجاح الأوبريت أصدر عبد الناصر توجيهاته ببناء مسرح دائم للعرائس، فتم الشروع على الفور في بنائه خلف دار الأوبرا المصرية، وبجوار المسرح القومي المصري في الأزبكية في منطقة العتبة (وسط القاهرة).

القرار الثاني الذي اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر في نفس العام، هو إدخال البث التلفزيوني في مصر، على رغم أن قرار بدء الإرسال للتلفزيون المصري قد اتخذ في أواسط الخمسينيات، فإن العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، تسبب في تأخير العمل في إنشائه حتى آواخر العام 1959 عندما وقعت مصر عقداً مع هيئة الإذاعة الأميركية (RCA) لتزويد مصر بشبكة تلفزيونية، في الوقت الذي كان قد بدأ العمل في إنشاء مبنى جديد بمنطقة «ماسبيرو» على كورنيش النيل،

ليتم الانتهاء من إنشاء مركز الإذاعة والتلفزيون في 1960 وبث أول إرسال تلفزيوني مصري في 21 يوليو 1960.

في العام نفسه كان قد تم الانتهاء من مسرح العرائس المصري بمنطقة العتبة، وقرر مدير المسرح الفنان راجي عنايت أن يكون أول عمل يفتتح به المسرح هو أوبريت «الليلة الكبيرة» الذي كتبه صلاح جاهين، ولحنه الشيخ سيد مكاوي، ليتم على الفور تكوين فريق عمل لتقديم الأوبريت، حيث عهد راجي عنايت إلى الفنان صلاح السقا بإخراج الأوبريت، وتنفيذ العرائس للفنان ناجي شاكر، وديكور مصطفى كامل.

فيما يجلس فريق العمل في المسرح مع الموسيقار سيد مكاوي والفنان صلاح جاهين، لتنفيذ بروفة على العمل، والذي سيشاركان فيه بصوتيهما، إذ بفتاة أنيقة تدخل عليهم قدمت نفسها باعتبارها فنانة تشكيلية، كلفها المخرج بالمشاركة في العمل لرسم بعض اللوحات التشكيلية التي ستوضع في الأوبريت، غير أنها لم تستطع إخفاء إعجابها بالشيخ سيد:

= اسمي زينات خليل

* عاشت الأسامي يا ست زينات... كلامك طالع من بقك مرسوم. واضح أنك فنانة تشكيلية شاطرة أوي.

= أشكرك يا فندم دا بس من روحك الحلوة.

* أكيد اللي عنده ذوق في الكلام... عنده ذوق في الألوان.

= أنت اللي كلامك كله موسيقى زي ألحانك.

- حلو أوي الكلام دا.. أقوم أروح أنا بقى.

= ليه يا أستاذ صلاح؟

- مليش مكان... طب الشيخ سيد هو اللي عامل الألحان الرائعة دي.. وهي بديعة وعظيمة وكل شيء جميل فيها... لكن العصفور الطليق... اللي غرد وكتب الإبداع دا... ملوش أي كلمة تشجيع.

= لا إزاي يا أستاذ صلاح. أنت عامل شيء بديع ورائع... وبعدين ما ينفعش نقول الأستاذ سيد مكاوي من غير ما نذكر اسم الأستاذ صلاح جاهين... ثنائي عبقري بيفكرنا بعبقرية الريحاني وبديع خيري.

حبيبة العمر

تعددت اللقاءات بين الفنانة زينات خليل والشيخ «سيد»، ضمن فريق عمل أوبريت «الليلة الكبيرة» وأحيانا منفردين، ما زاد من مساحة التقارب بينهما، حتى خرج الأوبريت للنور، وقدم على خشبة «مسرح العرائس» ليكون أول عمل يفتتح به المسرح، ويحدث ضجة هائلة لكل من عمل به بداية من الشيخ سيد وصلاح جاهين، وليس انتهاء بالمخرج صلاح السقا ومصمم ومنفذ العرائس ناجي شاكر.

بظهور الأوبريت للنور كان الحب قد تمكن من قلبي الشيخ «سيد» وزينات خليل، لم يستشر أحدا في حبه لها، ولم يحاول أن يتعرف على ملامحها وشكلها أو مواصفاتها كأنثى، بل ترك لقلبه هذه المهمة، فكان على عهده به دائماً، صادقاً لا يخذله:

* آنسة زينات. أنا كنت عايز... عايز أسألك... لا كنت يعني باسأل نفسي. لا أسأل نفسي دا... إيه اللخبطة اللي أنا فيها دي. أنا مش عارف بقول إيه؟

= مالك فيه إيه؟

* زينات أنا بحبك.

= أستاذ سيد... أنا... أنا اللي كنت عايزة أقولك. قصدي كنت بقول لنفسي... لا لا كنت عايزة أقولك.

* الله هي العدوى انتقلت لك ولا إيه؟

= سيد... أنا اللي بحبك أوي. ومن قبل ما أشوفك... وحبي زاد لك بعد ما شفتك.

* يبقى نتجوز.

لم يتردد الشيخ سيد وتقدم لخطبة زينات وسرعان ما تم الزواج، لينتقل الشيخ «سيد» إلى بيت الزوجية الجديد، ويحاول أن يصطحب والدته معه، غير أنها أبت وقررت البقاء في منزلها في نفس الحي الذي عاشت فيه عمرها كله... وتريد أن تموت فيه.  

«وش الخير»

كانت الزوجة زينات فاتحة خير على الشيخ «سيد»، فبعد الزواج مباشرة انهالت عليه الأعمال من كل اتجاه، خصوصاً بعدما فازت «الليلة الكبيرة» بجائزة أفضل عمل عرائس في «مهرجان بوخارست للعرائس»، بعدها قرر التلفزيون المصري تسجيل الأوبريت فانتشرت بشكل لم يسبق له مثيل لأي عمل فني، لدرجة أن الأولاد في الحارات والشوارع والأزقة بدأوا يرددونه ويغنون ألحانه في سهولة وانطلاق، خصوصاً بعدما بدأ التلفزيون يذيعه المرة بعد الأخرى.

«الليلة الكبيرة» كان حدثاً في النغمة المصرية الجماعية الأصيلة التي افتقدها الناس فضلا عن تجربته الناجحة المتميزة في مجال تلحين الأغنية الفردية التي يؤديها صوت واحد متميز الملامح والأبعاد الموسيقية، والتي بدأت ترسخ أقدامه كملحن تتسم ألحانه بالأصالة الشرقية، وفي الوقت نفسه لها لونها ومذاقها الخاصان به، بحيث يمكنك تمييز ألحانه من مجرد المقدمة الموسيقية، وعلى رغم ذلك كله لم يشعر الشيخ سيد بحلاوة هذا النجاح وهذا التألق، فقط لأنه حتى الآن لم يقدم لحناً واحداً لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وعلى رغم تهافت المطربين والمطربات عليه، وانتظار بعضهم ليفرغ الشيخ «سيد» من بعض الألحان ليقدم لهم لحناً، فإن نفسه عزت عليه أن يكرر تجربة عرض نفسه مجدداً على أم كلثوم، ويرى أنه ليس أقل من أغلب الذين يقدمون لها ألحانهم، ومثلما تطلبهم أم كلثوم لتقديم ألحانهم لها، فليس أقل من أن تطلبه، غير أن أم كلثوم كانت تعتمد على عدد من الملحنين بشكل دائم، وتلجأ إلى تجربة ملحن جديد بعد أن يذيع صيته ويحقق نجاحاً كبيراً، عندئذ تطمئن «أم كلثوم» للتعامل معه.

كتب الشاعر مأمون الشناوي، أغنية «أنساك» فعهدت بها أم كلثوم إلى الموسيقار الكبير زكريا أحمد، الذي بدأ بعقد جلسات معها حول الأغنية، لم يخرج منها سوى ببعض الجمل اللحنية من المقدمة الموسيقية، حينما عاودته آلام «الذبحة الصدرية» مجدداً، فنقل على إثرها إلى المستشفى، غير أن الألم لم يستمر طويلا هذه المرة ولم تفلح جهود الأطباء في إنقاذ أحد أكبر رواد الموسيقى العربية والشرقية، ليرحل الشيخ زكريا في الخامس عشر من فبراير عام 1961، بعد حياة حافلة من العطاء والتميز والإضافات العظيمة للموسيقى الشرقية.

عم الحزن جموع المصريين، وشعر المطربون والموسيقيون بفقدان قيمة كبيرة لن يجود بها الزمان.. حزن الجميع غير أن حزن سيد مكاوي وأم كلثوم كان مختلفاً، حَزَن سيد مكاوي لفقد الأب الروحي، والمعلم، ونصف المدرسة التي تربى فيها وعلى موسيقاه، حيث كان النصف الآخر لمدرسة سيد درويش، رحل الصديق الذي اقترب منه كثيراً، ولم يبخل عليه بالنصيحة والتشجيع حتى وقف الشيخ «سيد» على أرض صلبة، وأصبح قامة تقارب الكبار.

أيضا حزنت أم كلثوم على رحيل رفيق الدرب والرحلة، رفيق النجاح والتميز، اختلفا كثيراً، لكنهما اتفقا أكثر، واقتربا أكثر، فكان غيابه الصدمة الثالثة بعد رحيل والدها، ثم الشيخ أبو العلا محمد أستاذها الأول، ليغلق الشيخ زكريا المثلث الأكثر تأثيراً في حياتها، غير أن حزنها زاد وتضاعف لأنها لم تفز منه باللحن الأخير، فقد رحل الشيخ زكريا قبل أن يلحن لها أغنية «أنساك».

مرت الأيام، وهدأت الأحزان، وبدأت أم كلثوم تفكر فيمن يمكن أن يخلف الشيخ زكريا في لحن الأغنية، وبعد مشاورات عديدة مع عدد من المثقفين والكتاب والشعراء المقربين منها، أجمع الجميع على شخصية واحدة، وزاد من اقتناع أم كلثوم ما قاله الشاعر أحمد رامي:

- شخص واحد بس ممكن يعمل اللحن اللي أنت عايزاه زي ما كان الشيخ زكريا هيعمله.

= أوعى يكون اللي بفكر فيه.

- أنا أقصد الشيخ سيد مكاوي.

= أيوا هو اللي بفكر فيه... الجدع دا عامل شغل هايل في الفترة الأخيرة.

- وكمان شارب زكريا أحمد وسيد درويش كويس أوي... وعنده جمل لحنية ما حصلتش

بس أنت عارف قلقي.

- أطمني... أنا عارف.

= كمان فيه حاجة مهمة... أنا سامعة أن مواعيده مش مظبوطة... أنت عارف أن المواعيد أهم حاجة عندي.

- ما تقلقيش من الناحية دي خالص.

= خلاص أبعت جيبه يقابلني.  

(البقية في الحلقة المقبلة)

back to top