كل شيء حولنا في تلك الرحلة بدا مختلفا منذ الخطوة الأولى، كل شيء بلا استثناء، فطعم الماء مختلف، ورائحة الهواء مختلفة، ولغة البشر وأسلوبهم، ملامحهم حتى نبضات قلوبهم كانت تنبض بإيقاع لم يسبق لي سماعه من قبل، فكل شيء في ذلك العالم العجيب، حتى الصخر كان ينادي "يا حسين".
مشاعر وإحساسات ومشاهد لن يتمكن قلمي القاصر، مهما اجتهد، من إيصال تفاصيلها وملامحها، فرحة فخر تغطيها دموع الحزن على المصاب، ومجهود بدني كبير تغذيه لذة الوصول إلى معين لاينضب. ورفقة طيّبة تحيطك من كل جانب، وأخٌ في الله قل نظيره يأخذ بيدك ويشد من أزرك.فكيف للعقل البسيط أن يفسر قيام قرابة العشرين مليون إنسان بالسير مشيا على الأقدام لعشرات، وأحيانا، مئات الكيلو مترات نحو بلد صغير على ضفاف نهر التضحية والعطاء.في طريق النجف-كربلاء الذي يمتد نحو ١٠٠ كيلومتر، ترى على مد النظر تفاصيل شعب منهك هدّه الظلم لسنوات كافح وقدم التضحيات وما زال يكافح لانتزاع الحرية ولقمة العيش الكريمة، تراه يقدم كل ما يملك لزوار الحسين بلا منّة. ولا عجب في ذلك، فقد آمن هؤلاء أن الوطن لا يكون إلا من خلال السير على نهج الإمام الحسين، وأن الحرية لا تكون إلا برفع شعار "لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا شقاء وبرَما"، وأن تضحية هذا الثائر العظيم هي التي أعادت تدفق الدم في جسد الإنسانية، ولذلك تراهم على اختلاف أطيافهم ومذاهبهم، يسيرون في أمواج مليونية ليجددوا الولاء لسبط رسولهم الكريم.فإن أردت أن تكون معهم، فما عليك سوى أن تصنع كما صنعوا وتخلع رداء الماديات الذي أنهك جسدك لسنوات، وترتدي ثوب الإنسان الحر المؤمن بنظرية "انتصار الدم على السيف".فسلام على ذلك الثائر الخالد، بل سلام على منبع الإنسانية.
مقالات
ومضات من مسير أربعين الحسين
08-01-2013