لا يمكن أن يكون دافع كل هذه التظاهرات، التي شهدتها المدن التركية الثلاث الرئيسية، إسطنبول وأنقرة وأزمير، هو الاحتجاج على اقتلاع شجرة في ساحة "التقسيم" التاريخية، التي أعطيت هذا الاسم لأنها كانت أول محطة لتقسيم "توزيع" المياه بواسطة الأنابيب على سكان هذه المدينة التي كانت تعتمد على قرب حارات السقايين، كما في القاهرة ودمشق وبغداد ومكة المكرمة.

Ad

إن حكاية اقتلاع تلك الشجرة التاريخية، التي أشعل اقتلاعها كل هذه النيران في الحقل التركي الواسع، كانت مجرد حجة، وحقيقة إن رجب طيب أردوغان هذا السياسي الذي أثبت أنه من أكثر سياسيي العالم حنكة ودراية قد وقع في الفخ الذي نصبه له منافسوه وأعداؤه، سواء من داخل حزبه، حزب العدالة والتنمية، أو من خارجه، وبهذا فإنه كان عليه أن يعود إلى تقارير مخابراته وأجهزته الأمنية قبل أن يقدم على هذه الخطوة التي ثبت أنها ارتجالية وغير مدروسة، وربما أنه لم يستشر بها حتى رفيق دربه الطويل الذي من المفترض أنه أقرب الناس إليه الرئيس عبدالله غول.

لا توجد هناك أي ضرورة لبناء مسجد في ساحة "التقسيم"، فهذه المدينة التاريخية، التي كانت قبل نحو مئة عام عاصمة العالم الإسلامي كله، مليئة بالمساجد التي تشكل تراثاً يبعث على الافتخار للمسلمين كلهم، وكذلك فإنه لا توجد هناك ضرورة لبناء متجر كبير "مول"، ولا لتحويل هذه المنطقة السياحية إلى منطقة تجارية.

لقد أخطأ رجب طيب أردوغان في الإقدام على هذه الخطوة المرتجلة، خاصة أنه من المفترض أنه يعرف أن هناك قوى معارضة تنتظر أي هفوة ليكون لها ربيعها التركي، أسوة بالربيع العربي الذي مر بدول عربية فأسقط أنظمة وجاء بأنظمة جديدة، وأن الجماعات الأتاتوركية العلمانية لاتزال لم تهضم بعد، رغم مرور نحو عقدين من الزمن، أن يحكم حزب إسلامي يتردد أنه يشكل أحد أجنحة الإخوان المسلمين في دولة تخلت عن "الخليفة" و"الخلافة" ومنعت إطالة اللحى واعتمار الطرابيش العثمانية الجميلة، وغيرت خط سيرها السابق، واتجهت نحو الغرب الأوروبي محاولة الانضمام إلى أسرته على حساب تاريخ طويل من الاتجاه نحو عمقها الحقيقي والفعلي الذي بدأت في هذا العهد تعود إليه.

كان المفترض أن رجب طيب أردوغان يعرف هذا، ويعرف أن هناك قوى أكثر كرهاً له ولحزبه، حتى من المعارضة الأتاتوركية العلمانية، التي لاتزال لها بقايا نفوذ مؤثر في الجيش، الذي بدوره لايزال بعض جنرالاته يعتبرون أنفسهم أتاتوركيين، والمؤكد أن هذه القوى، التي هي عبارة عن امتدادات لأقليات مذهبية وعرقية، كانت تنتظر هذه "الغلطة" التي وقع فيها رئيس الوزراء التركي، لتكون هناك كل هذه الانتفاضة التي استُغلت إعلامياً من النظام السوري المجاور الذي يغرق في الموبقات السياسية وفي الجرائم وفي دماء الشعب السوري حتى شوشة رأسه.

وهنا فإن ما يجب أن يقال لكل الذين أعلنوا حالة الاستنفار القصوى فور بدء هذه الأحداث، التي لا هي ربيع عربي ولا هي ثورة على "الظلم والطغيان"، إن رجب طيب أردوغان لم يأت إلى الحكم لا على ظهر دبابة ولا بانقلاب عسكري، بل من خلال التصويت وصناديق الاقتراع، وإن تركيا في عهده وعهد حزبه أصبحت واحدة من أكبر ديمقراطيات العالم، لذلك فإن كل هذا لن يكون أكثر من مجرد زوبعة في فنجان، وأنه إذا كان هناك من استفاد منه فهو حزب العدالة والتنمية، الذي من المفترض أنه تعلم من هذه "الهزَّة" أشياء كثيرة، أولها أنه يقود دولة كبرى لاتزال غالبية شعبها مع "العلمانية" رغم تمسكها بالدين الإسلامي الحنيف.