وادي السليكون أم جبل الطلب... أيهما أولاً؟

نشر في 05-08-2013
آخر تحديث 05-08-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت يريد الجميع أن يعرفوا كيف يبنون "وادي السليكون" التالي: مركز الإبداع الذي يجتذب المواهب ورأس المال، ويخلق فرص العمل والشركات وصناعات جديدة بالكامل، وتتبارى حكومات الدول المتقدمة في دعم التكنولوجيا التي قد تكون البدعة الكبرى التالية. ويأمل صناع السياسات في الأسواق الناشئة أن تعمل بعض الحوافز مثل الإعفاءات الضريبية والأراضي المجانية على حث المبدعين على الاستقرار هناك وتحقيق الازدهار، ولكن أغلب هذه المخططات الحسنة النوايا تفتقد مكوناً أساسياً: الطلب.

كان الطلب على الإبداع في مجالات محددة من التكنولوجيا بمنزلة القوة المشتركة وراء كل بقاع التكنولوجيا الفائقة المتألقة، فضلاً عن أكثر الاختراعات أهمية. لقد برزت طفرات تكنولوجية عظيمة مثل المضادات الحيوية والسيارات كاستجابة لحاجة ملحة شعر بها عدد كبير من المستهلكين. وعملت المشاريع الحكومية مثل "برنامج أبولو" في الولايات المتحدة- الذي كان الهدف منه وضع إنسان على سطح القمر- على دفع الطلب على التكنولوجيات الأكثر أساسية (والتي هي ببساطة الاختراعات التي لم يطلبها أحد بعد).

وقد بني وادي السليكون نفسه على الطلب، فقد استثمرت وزارة الدفاع الأميركية عشرات المليارات من الدولارات في عقود الإلكترونيات الدقيقة، وهو الالتزام الذي نجح في تقليص المخاطر التي تواجه المبدعين وإيجاد بنية أساسية قادرة على دعم نمو المشاريع البادئة.

ولكن لا نستطيع أن نقول إن كل أشكال الطلب متساوية، ومن المفيد أن ندرس الاختلافات.

إن الطلب الاستهلاكي أو الطلب الذي تحركه السوق- ذلك النوع الذي نفكر فيه غالباً عندما نسمع الكلمة- لا يمكن التكهن به، وبالتالي فإنه أشد خطورة من الطلب الذي تتولى الدولة رعايته على غرار ذلك النوع الذي أنزل إنساناً على سطح القمر. وتتسم الشركات التي تعتمد جاذبية منتجاتها التجارية فحسب بمحدودية أشكال الإبداع التي يمكن تقديمها بأمان، لأنه في حال فشل أحد منتجاتها في السوق، فإنها قد لا تتمكن من البقاء حتى يتسنى لها أن تقدم منتجاً آخر، ويصدق هذا بشكل خاص على المشاريع المؤسسة حديثاً والشركات الصغيرة- التي يتمنى الجميع أن تظهر في الموجة التالية من أودية السليكون.

ومن حسن الحظ أن الحكومات قادرة، من خلال رعاية المبادرات الطويلة الأجل، على تحفيز المزيد من الطلب الذي يمكننا التنبؤ به بشكل أفضل. فقد أعطى "برنامج أبولو" المبدعين أهدافاً محددة بوضوح ورسم لهم خطة طريق للوصول إلى هذه الأهداف: وضع حيوانات في مدار حول الأرض أولاً، ثم إرسال مسبارات إلى القمر، ثم إرسال البشر إلى هناك.

وعلى نفس القدر من الأهمية، قدمت الحكومة المكافآت للتقدم المرحلي، وليس فقط النجاح النهائي. فربما لم يكن إرسال قرد إلى الفضاء أكثر الإنجازات إثارة، ولكن الحكومة كانت تكافئ مثل هذه النجاحات، وهذا هو ما يسر حدوثها. إن الحكومة الذكية تعمل على خلق الطلب المضمون ليس فقط كحل في حد ذاته، بل من أجل خطوات أخرى على طول الطريق.

وبفضل المزاوجة بين المعالم التقنية الوسيطة والحوافز المضمونة تمكنت الشركات من التركيز على المشاكل التي قد يستغرق حلها عشرة أعوام أو أكثر، وهذا من شأنه أن يحفز أيضاً المبدعين المنتمين إلى مجموعة متنوعة من الصناعات على التصدي لمشاكل معقدة يحتاج حلها إلى أكثر من نوع واحد من الإبداع، فلم تكن مبادرة الإلكترونيات الدقيقة التي أطلقتها وزارة الدفاع تحتاج إلى مواد ودوائر جديدة فحسب، بل إنها كانت تتطلب أيضاً ابتكار طرق جديدة للتصنيع. وبسبب بنية الثواب والمكافأة، أصبح من الممكن التنسيق بين هذه الجهود، بدلاً من تنفيذ كل منها في عزلة عن الجهود الأخرى.

وعلى النقيض من الطلب الذي تحركه السوق، والذي يؤدي غالباً إلى ديناميكية يحصل الفائز بمقتضاها على كل شيء، فإن الطلب الذي ترعاه الدولة يخلق بيئة يتسنى لحلول متعددة للمشاكل الفنية أن تتكاثر وتتعايش. فقد جرب رواد الإلكترونيات الدقيقة العديد من الاستراتيجيات للاستغناء عن أنابيب الفراغ، فتوصلوا إلى مجموعة من أشباه الموصلات وتصميمات الرقاقات: الجرمانيوم، والسليكون، والألمنيوم، وأرسينيد الغاليوم الثلاثي، وهلم جرا. ولم يتم تنفيذ بعض هذه الجهود البحثية قط، ولكن العديد منها وجدت طريقها إلى أجهزة متخصصة، وسمح تنوع الخيارات باستخدامها على نطاق واسع، الأمر الذي مهد الطريق للثورة الرقمية.

وكما كانت الحال مع برنامج الإلكترونيات الدقيقة، فإن الحوافز الحكومية لا ينبغي لها بالضرورة أن تمهد الطريق كله إلى النجاح التجاري، فعند نقطة ما، تصبح الشركات على استعداد لبيع المنتجات، وبعد ذلك يتولى الطلب في السوق بقية الأمر. كانت وزارة الدفاع الأميركية المستهلك الوحيد للدوائر المتكاملة في عام 1962، ولكن بحلول نهاية ذلك العقد كان المستهلكون يشترون أجهزة الراديو الترانزيستور والآلات الحاسبة الصغيرة بكميات هائلة.

وعلى نحو مماثل، لا ينبغي للطلب الذي تتولى الحكومة رعايته أن يتخذ هيئة إعانات دعم موجهة لتكنولوجيات أو شركات بعينها؛ فلا يجوز للحكومات أن تقامر بأموال دافعي الضرائب على مشاريع معينة. إن خوض هذه المجازفة وظيفة أصحاب رؤوس الأموال وغيرهم في مجال التمويل، وليس الموظفين العموميين، ولكن المخاطر المنطوية على تقديم عقد لوظيفة منجزة بشكل ممتاز ضئيلة: فلن يحصل الطرف الآخر على مقابل إذا ظلت المشكلة بلا حل.

وهذه التكاليف متواضعة مقارنة بجهود البحث والتطوير التي تحفزها، فالبرنامج الذي يقدم مكافآت من مليار إلى خمسة مليارات دولار في هيئة عقود أو التزامات قادر على توليد عدة أضعاف هذه القيمة في مشاريع البحث والتطوير في القطاع الخاص، ولا شك أن المبدعين والمستثمرين على استعداد للمراهنة بالكثير على مثل هذه الفرص، لأنهم يدركون أن المكافأة النهائية المتمثلة بالعائدات من قاعدة عالمية من العملاء ستتجاوز كثيراً الاستثمار الأولي. وهذا من شأنه أن يجعل من الطلب الذي تتولى الدولة رعايته آلية بالغة الكفاءة والفعّالية لتوليد الإبداع.

وبسبب التأثير المضاعف، فإن الحكومات والدول الصغيرة، بل حتى المدن الكبيرة، تستطيع أن تتولى بنجاح رعاية ذلك النوع من الطلب الذي يعمل على تشجيع نشوء مراكز إبداع عالمية المستوى. والواقع أن بعض الدول الاسكندنافية والأقاليم الصينية فضلاً عن دولة سنغافورة الصغيرة تعتبر في وضع مثالي يسمح لها بتجربة هذا النهج.

قبل بضعة أعوام، قمت بحساب عدد الوحدات من المنتج التي لابد من بيعها من أجل إطلاق العنان لأي تكنولوجيا جديدة. وكان الرقم متواضعاً للغاية في واقع الأمر: فإذا تمكنت من تحريك ما بين مئة ألف إلى مليون وحدة من منتج جديد فائق، فسوف يكون بوسعك أن تؤسس المعايير التكنولوجية لهذه الفئة وأن تصبح بمرور الوقت الرائد العالمي لصناعة جديدة. والرعاية الحكومية تضمن أن عدداً معيناً من الناس سوف يتبنون منتجك. وليس بالضرورة أن يكون العدد كبيراً في البداية.

ويتعلم المخططون الاقتصاديون وصانعو السياسات الذين يحاولون محاكاة وادي السليكون أنهم لا يستطيعون دوماً استنساخ ثقافة المبادرة التجارية وآليات التمويل المزدهرة هناك الآن، ولكنهم نسوا كيف بدأ كل شيء: الطلب المضمون الذي يعمل على تحفيز النوع الأكثر طموحاً من الإبداع.

والدرس هنا بسيط: لا تحاول بناء وادي سليكون آخر، بل يتعين عليك بدلاً من ذلك أن تحاول بناء جبل الطلب، وسوف يأتيك المبدعون.

* إدوارد يونغ ، كبير مخططي المشاريع في شركة "مايكروسوفت" سابقاً، وكبير مسؤولي التكنولوجيا في شركة المشاريع الفكرية حالياً.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top