أثارت التغطية الإعلامية الضخمة التي حظيت بها الأعمال الدرامية المصرية الرمضانية الكثير من المخاوف والقلق حول مصير السينما المصرية، التي وجدت نفسها في مفترق طرق، بل ورطة حقيقية عليها أن تبحث عن مخرج لها، بعدما حققت الدراما طفرة نوعية على صعيدي  الفكر والتقنية، ولاقت تجاوباً جماهيرياً ونقدياً كبيراً؛ فقد عودتنا السينما المصرية على أن تُفاخر بنفسها، وتتباهى بكتابها ومخرجيها ونجومها، وأيضاً الصورة المبهرة التي يعجز التلفزيون عن محاكاتها، وخصوصية الأفكار التي لا يمكن مباراتها، فضلاً عن الإيقاع السريع الذي فشلت الشاشة الصغيرة لسنوات طويلة في الوصول إليه، نظراً إلى إصابتها بالمرض المزمن المسمى: المط والتطويل!

Ad

هكذا كانت الحال طوال الأعوام الماضية، ومن ثم لم يشعر القيمون على السينما يوماً بالفزع أو الخوف من منافسة الشاشة الصغيرة، التي اتهمت بأنها تعاني «الشيخوخة» وأنها «طاردة» للجمهور، مُقارنة بالجاذبية الشديدة للأفلام السينمائية. غير أن ما جرى في رمضان هذا العام نسف البديهيات، وخالف التوقعات، وزلزل الثقة التي كانت جاثمة على الصدور زمناً طويلاً؛ إذ وصلت التقنية في الأعمال الدرامية الرمضانية إلى مستوى رفيع، نتيجة السخاء الإنتاجي، والاستعانة بكاميرات التصوير HD عالية الوضوح والكفاءة والجودة، الأمر الذي انعكس على الصورة فاتسمت بالجمال والسحر والإبهار.

على الجانب الآخر، ظلت الشاشة الصغيرة لسنوات طويلة تُعاني فقراً إبداعياًً كبيراً، بسبب الحصار الرقابي والعنت البيروقراطي، كذلك القيود المفروضة على كتاب الدراما التلفزيونية، وتحد من انطلاقاتهم كثيراً، مقارنة بالسقف العالي للحرية المكفول لكتاب السينما، والقبضة الأقل سطوة التي تُمارس عليهم من الرقابة على المصنفات الفنية. لكن الوضع تغير بشكل كبير في الفترة الأخيرة، كنتاج طبيعي للمتغيرات الأخيرة، وانتقلت عدوى الجرأة إلى كتاب الشاشة الصغيرة، الذين لم يكتفوا بتحطيم «التابوهات» المعروفة، وإنما اخترقوا «منطقة الحظر»، واقتربوا من القضايا المتعلقة بالجنس والدين والسياسة التي يُطلق عليها «الثالوث المقدس»!

انقلاب خطير ظهرت آثاره الإيجابية مع نهاية الموسم الدرامي الرمضاني، الذي تحول فيه المسلسل الدرامي إلى علامة فارقة، نتيجة لجرأته الأسلوبية والشكليّة التي لم تكن معتادة من قبل، وأصبح يمثل تهديداً حقيقياً للفيلم المصري، الذي أخشى أن يتراجع تأثيره في المرحلة المقبلة، في حال لم يستثمر الطفرة الدرامية، على صعيدي التقنية وجرأة الطرح، بالإضافة إلى الوجوه الشابة التي كشفت عنها الدراما التلفزيونية، وينطلق بها ومعها إلى آفاق أكثر رحابة!

ما يستحق الذكر أنه حتى وقت قريب كان العمل في مجال الفيديو بمثابة «وصمة عار» على جبين السينمائيين، وفي أحايين كثيرة كان ثمة من يعتذر منهم عن اتخاذ قرار الاتجاه إلى الشاشة الصغيرة، وكأنه اقترف ذنباً لا يغتفر، كما حدث مع نجوم أرجعوا السبب في «هرولتهم» إلى التلفزيون بضيق ذات اليد، وتدهور أحوالهم المعيشية، نتيجة تضاؤل فرص العمل في مجال السينما، واقتصار الاختيارات على أسماء بعينها لا تتغير!

اختلف الوضع اليوم، وأصبحنا نجد صعوبة كبيرة في العثور على الممثل، أو الممثلة، الذي لم يتجه إلى العمل في الدراما التلفزيونية، أو اختار اللجوء إليها ليحتمي من غدر الزمن، ويستفيد من جماهيريتها، التي اتسعت رقعتها، نتيجة ما أصطلح على تسميته «المسلسلات المصنوعة بروح سينمائية»؛ خصوصاً أن القوى الشرائية المتمثلة في الجمهور القادر على ارتياد صالات العرض، وابتياع «تذكرة الدخول»، تراجعت كثيراً نتيجة الظروف الاقتصادية المتردية، ومن ثم أصبحت «الفرجة المنزلية» أفضل كثيراً من «الخروج غير الآمن»، وصارت في نظر البعض «السينما البديلة»!

تخلصت الدراما التلفزيونية إذاً من أمراضها المتمثلة في: الثرثرة والمط والتطويل، الإيقاع البطيء والمترهل، الصورة النمطية، والأفكار التقليدية التي عودتنا إياها، كذلك  أسهمت في انتعاش الساحة الإعلانية، ونجحت في تحقيق العائدات الاقتصادية التي تشجع على الاستثمار فيها، بعدما تحولت إلى «طقس شعبي». لكن هل يكفي هذا للقلق على مصير السينما في المستقبل القريب أم تظل «الفرجة» في الصالات المغلقة بمثابة المتعة التي لا يمكن الاستغناء عنها، والسحر الذي يصعب تعويضه!