في ظل عالم يتسم بالعولمة والتفاعل تحولت فيه انتهاكات حقوق الإنسان المشينة إلى مسؤولية جماعية يتحمل تبعاتها الكل، تبدو الحجج الداعية إلى التدخل الخارجي في سورية مقنعة... لكن يبقى تاريخ عمليات التدخل المسلح تحت شعار الإنسانية مبهماً على أقل تقدير.

Ad

قد نشعر بأن التدخل الغربي المسلح أصبح المعيار السائد في المرحلة الراهنة بعد العمليتين العسكريتين الأخيرتين (في ليبيا لإسقاط معمر القذافي، ثم في مالي لردع المجاهدين الذين يهددون بالاستيلاء على البلد).

لكن تشير الأحداث التاريخية إلى أن هاتين العمليتين كانتا استثناءً من القاعدة. حتى أقوى داعمي التدخل الإنساني يجدون صعوبة في تصوّر طريقة تطبيق التدخل في سورية طالما يحظى نظام الرئيس بشار الأسد بدعم روسيا.

لا تتطلب جميع عمليات التدخل تفويضاً من الأمم المتحدة، ففي عام 1982، تمركزت قوة متعددة الجنسيات تتألف من القوات الأميركية والفرنسية والإيطالية والبريطانية في بيروت لحماية الفلسطينيين غداة المجزرة التي ارتكبها عناصر ميليشيا "الكتائب"، بالتحالف مع إسرائيل، في مخيمات صبرا وشاتيلا. في عام 1991، غداة حرب الخليج الأولى التي كانت تهدف إلى إخراج القوات العراقية من الكويت، تدخلت القوى الغربية لحماية الأكراد الذين كانوا يهربون بالآلاف من الجيش العراقي الحاقد.

لكن ثمة حالات أخرى حيث أشاح العالم نظره عن الأحداث؛ فقد قوبلت الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994 باللامبالاة، وحرص مجلس الأمن حصراً على إجلاء الأجانب وتخفيض وجود قوات الأمم المتحدة هناك.

كذلك، اكتفت الصحافة الأجنبية بتخصيص سطور مختصرة لأخبار الحرب الأهلية الجزائرية التي قتلت على الأرجح 200 ألف شخص بين عامي 1991 و2002. في ما يخص البوسنة، أسوأ صراع شهدته أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فاضت وسائل الإعلام الأوروبية في بداية التسعينيات بالقصص المرعبة والدعوات إلى التدخل، لكن مرت ثلاث سنوات وسقط آلاف القتلى قبل أن يهاجم حلف الأطلسي القوات الصربية من الجو ويجبرها على رفع الحصار عن سراييفو.

يمكن أن تستخلص سورية دروساً مهمة من هذه الصراعات. في بيروت، كان ذنب القوى الغربية واضحاً لأنها تخلت عن الفلسطينيين، وكانت القوة المتعددة الجنسيات قد أشرفت في مرحلة سابقة على إجلاء الفلسطينيين المسلحين من بيروت، ولكنها تركت بذلك المقيمين في المخيمات من دون حماية ضد أعدائهم، ثم انسحبت بكل بساطة. لم يتجاوب أحد مع الحجج الأخلاقية التي اعتبرت أن انسحاب القوات سهّل ارتكاب المجزرة.

ينطبق الأمر نفسه على الأكراد في شمال العراق، بعد أن طرد التحالف بقيادة الولايات المتحدة الجيش العراقي من الكويت في عام 1991، انتفض الأكراد ضد نظام صدام حسين وكانوا مقتنعين بأن واشنطن تشجعّهم في مساعيهم، ولكنهم لم يحصلوا فعلياً على أي دعم أميركي في المرحلة اللاحقة.

كانت صور النساء والأطفال الهاربين بحثاً عن الأمان في جبال شمال العراق مؤثرة بالفعل، وقد دفعت دول التحالف إلى فرض حظر جوي على شمال العراق. في المقابل، بقي العرب في جنوب العراق وحدهم ليواجهوا مصيرهم (كانوا في الموقف نفسه مثل الأكراد ولكنهم كانوا معزولين عن وسائل الإعلام وافتقروا إلى الأعمال البطولية في الجبال) مع أنهم حصلوا على حظر جوي بعد سنة.  

لتبرير استعمال القوة المسلحة لأغراض إنسانية، لا بد من توافر دعم إعلامي قوي، لكن يتطلب هذا الدعم بدوره خطاباً إعلامياً بسيطاً عن صراع الخير والشر. اتضح هذا الأمر مع الأكراد (صدام حسين) وفي بيروت (أرييل شارون و"الكتائب" اللبنانية). لكن حتى عندما تدعو الصحافة إلى التحرك، كما حدث في حرب البوسنة خلال التسعينيات (حيث كان سلوبودان ميلوسيفيتش شخصية مكروهة)، انتظر حلف الأطلسي ثلاث سنوات قبل أن يطلق حرباً جوية أجبرت الصرب في نهاية المطاف على المشاركة في محادثات السلام.

من المفيد أيضاً أن يتحقق الهدف العسكري من الجو، وهذا ما حدث في البوسنة وفي كوسوفو أيضاً في عام 1999، حين أطلقت قوات حلف الأطلسي حملة قصف لإنقاذ الشعب الكوسوفي والألباني من الإبادة الجماعية، علماً أن الكثيرين مقتنعون اليوم بأن التقارير المرتبطة بتلك الأحداث كانت مبالغاً فيها.

لا تظهر أيٌّ من هذه الظروف في سورية، سبق أن أثبتت القوى الغربية أنها لا تتحرك عندما تشعر بالذنب حصراً، وقد كانت وحشية قوى الأمن السورية في درعا هي التي حولت الاحتجاجات السلمية إلى انتفاضة.

كذلك، ما من خطاب بسيط عن صراع الخير والشر، لا تتوافر جميع مواصفات الدكتاتور في الأسد، بل إنه أقرب إلى الحاكم غير الكفؤ الذي يفتقر إلى المهارات السياسية للحفاظ على النظام الذي ورثه. في ما يخص الثوار، هم منقسمون ولا يهتمون فعلياً بالمدنيين في المناطق التي يسيطرون عليها. ويبقى ادعاؤهم التفوق من الناحية الأخلاقية ضعيفاً. فور سقوط عشيرة الأسد، لن يحل السلام بل ستنشأ حرب تدوم سنوات بين المنتصرين.

لا تبدو الدروس المستخلصة من عمليات التدخل السابقة واعدة، إذ أدى التدخل الميداني في بيروت في عام 1982 إلى اعتداءات جماعية على الجنود الأميركيين والفرنسيين في عام 1983، ومن المعروف أن مسيرات سياسية كاملة تُصنَع عبر قتل الأميركيين، وقد تكون اللعبة مماثلة في سورية. يدرك أي جنرال مخضرم (إذا لم يكن يدافع عن ميزانيته) أن الحرب مغامرة لها نتائج غير متوقعة.

اتضح هذا الواقع تحديداً بعد غزو أفغانستان والعراق. استنتجت القوات البريطانية في البصرة أن وجودها في العراق زاد الوضع سوءاً.

ثم اتضح هذا الواقع مجدداً غداة قتل القذافي، ربما كانت الحملة الجوية التي أطلقها حلف الأطلسي سريعة وناجحة، ولكنها ساهمت الآن في نشر الفوضى في أنحاء منطقة الصحراء.

زادت شجاعة نظام الأسد نتيجة تردد الغرب، فهو حصل على رسالة واضحة مفادها أن الدافع الوحيد الذي يبرر التدخل العسكري الغربي هو فقدان السيطرة على الأسلحة الكيماوية السورية، ولا يزال مستقبل الأسد غير مضمون بأي شكل، لكن ما لم تقع كارثة متعلقة بالأسلحة الكيماوية، فلن تحلّق أي طائرة من طراز B-52 فوق دمشق لقصفه وطرده من قصره الرئاسي.

* الان فيليبس | Alan Philps