سينما «التوك شو»!
لا أعرف حقيقة الأسباب التي دفعت السيناريست الشاب أيمن بهجت قمر إلى خوض تجربة كتابة سيناريو فيلم {سمير أبو النيل}، لكنني أزعم أنه كان بمقدوره أن يخط الفكرة في مقال، ويبعث به إلى صفحة الرأي في أي جريدة يومية، ولا أظن أن إدارة تحريرها كانت ستمانع في نشر المقال لما لصاحبه من مكانة كشاعر غنائي معروف، وكاتب يملك رؤية اجتماعية لها احترامها، ومواقف وطنية لا شك فيها!أكتب هذا وكنت أول من أشاد بتجربة {قمر} في فيلم {آسف على الإزعاج} (2008)، بعد أن لمست في كتابته روحاً عذبة، وأحاسيس إنسانية فياضة. على رغم ما قيل عن اقتباس الفكرة من فيلم أجنبي، فإنه في {سمير أبو النيل} يبدو {مناضلاً على الورق}، ومُصلحاً اجتماعياً مكانه منابر المساجد، وليس شاشات السينما؛ فالفيلم أقرب إلى {منشور} أراد كاتبه التخلص من عبء الأفكار الكثيرة التي تطارده حيال الوضع الراهن في مصر، كالانهيار الأخلاقي، والانفلات الأمني والإعلامي، والتغير القيمي، والفساد السياسي، والاقتصادي. وبدلاً من أن يُدون أفكاره في {مقال سياسي في حلقات} ضل الطريق، وتحول إلى {سيناريو فيلم سينمائي} اختار لبطله اسم {أبو النيل} فنفى عنه كونه {حالة فردية استثنائية} وأصبح {إسقاطاً} على الشعب المصري بأكمله!
في {سمير أبو النيل}، يدخل الكاتب أيمن بهجت قمر، ومعه المخرج عمرو عرفة، في {وصلة ثرثرة} طويلة ومملة ومستفزة، قبل أن يبلغا النقطة الساخنة التي اختاراها محوراً للأحداث، وتتمثل في انتقاد مظاهر الفوضى الإعلامية، التي تعيشها البلاد، وجعلت من البطل {البخيل} المكروه من الجميع (أحمد مكي) صاحب قناة فضائية، يسيطر عليها ويحتكر برامجها، ويحرك الرأي العام من خلالها، قبل أن يستيقظ ضميره، لأسباب غير مقنعة، ويستفيق من غفلته، بعد واقعة عبثية سمجة، ويُعلن استقالته على الهواء مباشرة، ويُطالب جمهوره (الشعب) قبل رحيله بأن يغفر له الجرائم التي ارتكبها في حقه، وينصحه بأن يكون أكثر حذراً، وألا يقع ضحية لأشرار جدد يغررون به، ويحتالون عليه مستغلين ضائقته الاقتصادية، وقبل هذا جهله وبساطته التي تصل إلى حد السذاجة!قناعة لدى الكاتب أيمن بهجت قمر لا يمكن لأحد أن يُشكك في صدق توجهها أو يختلف معه حول وقائعها، والتحذير من خطورتها؛ فثمة بالفعل قنوات فضائية، كما في الفيلم، ظهرت بين يوم وليلة، يُسيطر عليها {أراغوزات} ليسوا سوى {واجهات} لمجهولين وظفوها لأغراض مشبوهة على رأسها {غسيل الأموال}. لكن الفيلم افتقر إلى الحس الجمالي، الذي ينأى به عن التورط في نقل الواقع بحذافيره، وكأننا نقرأ {صفحة الحوادث} في جريدة يومية، ربما لأن المخرج عمرو عرفة عجز، على غير عادته، عن السيطرة على عناصره الفنية، التي كان يُجيد توظيفها في أفلامه السابقة، وعلى رأسها الصورة محسن أحمد التي بدت فاترة ومحايدة، وتفتقد الدفء، كذلك التمثيل الذي اتسم بالانفعال والافتعال، ومال أداء الممثلين، وعلى رأسهم أحمد مكي، إلى الصراخ والزعيق والعصبية، ولم تنجح موسيقى محمود طلعت في إزالة الشعور بالصقيع الذي يلف التجربة، والضجيج الناتج من رغبة الكاتب في تناول كل الظواهر المرضية، والسخرية من شخصيات بعينها طفت على سطح المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، وكأنه فيلمه الأخير؛ فالشرطي مرتش ومبتز، ولا مانع لديه من أن يتحول إلى {هلفوت} يحمل الحاجيات إلى منزل البطل، و{بودي غارد} في حال رفته من الخدمة، وقسم البوليس ينقلب، بحجة الانفلات الأمني، إلى {كباريه} يمرح فيه البلطجية والمدمنون، الذين يتحفظون على أمين الشرطة في زنزانة (!) والحملات الإعلانية لمستحضرات التجميل خادعة وتتسبب في الإيقاع بكثير من الضحايا، وتشفير المباريات {لعبة} يُخطط لها أباطرة،والمكاتب الاستشارية {تمثيلية} للتربح والكسب غير المشروع، وظاهرة التسول وأطفال الشوارع تحركها مافيا مشبوهة، وحقوق الملكية الفكرية مُهدرة، والتحرش بالصحافيين يجري على قدم وساق... وظواهر وقضايا كثيرة أثقلت كاهل الفيلم بشكل واضح!لم يخل {سمير أبو النيل} من اجتهادات طيبة؛ كاختيار أغنية {كوكب تاني} لتكون {رنة الموبايل} الخاص بالبطل الذي يرى نفسه {أبو العريف} و{زامر الحي الذي لا يُطرب} وعليه أن يختار لنفسه وطناً يحتفي بمقوماته، كذلك توظيف أغنية {المليونيرات} لمدحت صالح وشريف منير، كإسقاط على انقلاب الهرم الاجتماعي، وتنامي ظاهرة الصعود القائم على الانتهازية، واستبدال وقائع بعينها بمواقف كاريكاتورية أو رمزية، لكن اعتمد الفيلم نهج التلقين المباشر في توصيل المعلومة، وغابت الصورة بدرجة ملحوظة، وغرق في مستنقع {الواقعية الحرفية} (بفتح الحاء) وتبني لغة الخطاب المباشر، وهي العناصر التي تنفي المتعة، وتُعطل العقل، وتجعل من الفيلم السينمائي نسخة أخرى مشوهة من برامج {التوك شو}!