ما قل ودل: العفو الرئاسي تناسى أصل نشأته

نشر في 24-02-2013
آخر تحديث 24-02-2013 | 00:01
 المستشار شفيق إمام تناولت العفو الرئاسي عن العقوبة، في مقالين نشرا على صفحات "الجريدة" في عدديها الصادرين يوم 27/ 1/ 2013 تحت عنوان: "لماذا رفض المتهمون في مصر العفو الرئاسي؟" ويوم الأحد الماضي تحت عنوان "العفو الرئاسي والمسؤولية السياسية".

وكنت قد وعدت بأن أستكمل موضوع العفو الرئاسي عن العقوبة والعفو العام عن الجريمة، والذي تقصر الدساتير الحدثية منحه على البرلمانات، وسأتناول في هذا المقال، المصدر التاريخي لنظام العفو، وكيف نشأ تصحيحاً لأخطاء قضائية في محاكمة جائرة عبر التاريخ. المصدر التاريخي للعفو الرئاسي   

يرجع نظام العفو الرئاسي عن العقوبة إلى مصدرين تاريخيين:

المصدر الأول: أن الملوك، كانوا يحكمون شعوبهم، ويتوارثون الحكم على أساس الحق الإلهي، وأنهم ظل الله على الأرض، ومن هنا كان الملك هو المصدر الأول للعدل والعدالة، وكان الملك هو الذي يمنح المحاكم سلطاتها في محاكمة الرعية عن الجرائم التي يقترفونها، ومن هنا كان استخدام الملوك لسلطة العفو استرداداً لحق أصيل له منحه للمحاكم.

المصدر الثاني: أن القضاء لم يكن يتمتع بالاستقلال الذي يتمتع به الآن في أغلب دول العالم، وفي أغلب دساتيره المعاصرة، ولم يكن مبدأ شرعية التجريم والعقاب قد رسخ في ضمير الإنسانية، ولم تكن ضمانات التحقيق والدفاع ومقومات المحاكمة المنصفة العادلة قد توسدت الضمير القضائي، بل كانت اعترافات المتهمين تنتزع قسراً بوسائل تعذيب فوق طاقة البشر، وكان التعصب الديني سيفاً مستلاً على أصحاب الرأي والعلماء بالهرطقة، وكانت محاكم التفتيش في أوروبا تحكم بعقوبات شديدة القسوة والغلظة يرفضها المجتمع الإنساني الآن.

الأخطاء القضائية عبر التاريخ

كان سقراط يدعو إلى حق الإنسان في أن يفكر ويتأمل ويبحث ويدقق، فاتُّهم بالهرطقة والكفر بالآلهة، ليلقى حتفه وهو في سن السبعين من عمره محكوماً عليه بالإعدام من محكمة كانت تضم خمسمئة قاض وقاض في محاكمة انتهت بتصويت 281 منهم بإدانته ضد 220 صوتاً رفضوا إدانته.

وأعدم الفيلسوف جيوردانو برونو حرقاً بعد أن اتهمته الكنيسة بالهرطقة، ولكن غاليليو أفلت من الإعدام حرقاً، عندما اتهمته الكنيسة بالهرطقة، لأنه أثبت دوران الأرض في كتابه الذي ألفه بعنوان "حوار حول نظامي العالم الرئيسيَين"، وعندما مثُل أمام المحكمة الكنسية العليا في سن السبعين، هدده رئيس المحكمة بأنه سيلقى مصير برونو الذي كانت المحكمة قد حكمت بحرقه، إذا لم يعلن براءته مما اقترفه من أخطاء، فأعلن غاليليو توبته، كما أقسم أنه لن يعود إلى ترديد أخطائه مستقبلاً، ولكنه قبل أن يموت كتب كتاباً أخيراً ضمنه ملخصاً لأعماله وأفكاره التي تثبت دوران الأرض.

وأُعدمت جان دارك حرقاً في سنة 1431 في محاكمة افتقدت كل ضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة أمام محكمة كنسية كانت تضم خمسة وأربعين من رجال الكنيسة، في اتهام لها بالشعوذة، وكانت سجينة في سجن يحرسه جنود إنكليز، وهي التي حاربتهم، وذلك بالمخالفة للقانون الكنسي الذي يفرض احتجاز من يحاكم أمام محكمة كنسية في سجن كنسي، وبحراسة النساء إذا كانت المتهمة امرأة، كما لم يعين محام للدفاع عنها.

وأعدم كالاس في فرنسا عام 1762، وكان قد اتُّهم بأنه قتل ابنه مارك، لأنه كان ينوي اعتناق الكاثوليكية، والارتداد عن البروتستانتية التي يدين وتدين بها عائلته، وكان مارك قد مات منتحراً، إثر اكتئاب أصابه عندما رفضت كلية الحقوق التحاقه بها، حيث لم يكن مسموحاً لبروتستانتي الالتحاق بالمرحلة الجامعية وقتئذ.

وطوال المحاكمة أمام محكمة كنسية كاثوليكية رفض الأب الاعتراف بالتهمة، سواء أمام المحقق أو أمام المحكمة، رغم أن المدعي العام قد أمر الجلادين بشد ذراعيه باتجاهين متعاكسين، وكان الشد يزداد كلما أنكر كالاس الاتهام الموجه إليه، وكان الرجل يتحمل العذاب لإنقاذ أسرته من أن يصدر حكم بإدانتهم معه.

وحكم عليه بالإعدام بالمقصلة، وتم تنفيذ الحكم بعد أن كسر الجلاد أطرافه الأربعة بعصا حديدية، ثم ربط عنقه بقوة ليختنق طوال ساعتين، ولما لم يمت أجهز عليه الجلاد ورمى جثته في النار وسط هرج الجمهور الكاثوليكي الذي جاء لينفث حقده عليه.

العفو كان تصحيحاً لأخطاء القضاة

ومضت 25 سنة، قبل أن يجتمع الفرنسيون في باحة قصر روان ليستمعوا إلى حكم آخر يصدره كبار رجال الكنيسة في باريس يعلنون فيه باسم الرب أن المحاكمة التي راحت ضحيتها جان دارك، محاكمة باطلة، وأن الحكم بإعدامها حرقاً هو حكم باطل، وأن الاتهامات الموجهة إليها بالشعوذة والهرطقة الموجهة إلى الشهيدة هي اتهامات باطلة"!.

ولجأ أوديير محامي كلاس إلى فولتير، الذي جمع عدداً من رجال القانون، الذين تولوا دراسة أوراق القضية، وأثبتوا التجاوزات التي حدثت في هذه المحاكمة، وأن المدعي العام أقام مأتماً كاثوليكياً لمارك، في جناز لم يكن له مثيل، إذ حمل النعش أربعون كاهناً وأوصلوه إلى الكنيسة، وهناك رفعت لافتة "الردة عن الهرطقة... إمضاء مارك كالاس"... للتأثير على قضاة المحكمة.

وبعد ثلاث سنوات من إعدام كالاس، أصدر مجلس الملك حكماً يرد اعتبار كالاس وتبرئته، وبراءة جميع أفراد أسرته الذين كانوا يقضون عقوبة السجن المؤبد في هذه المحاكمة الظالمة.

وقد تناسى نظام العفو الرئاسي عن العقوبة الآن، والعفو عن الجريمة والعقوبة، وهو ما يعرف بالعفو العام أو الشامل، أصل نشاته، ليتطور تحت تعاليم دينية وإنسانية... وهو ما سنتناوله في مقال قادم بإذن الله.

back to top