يعلم كُتَّاب الصحافة اليومية أن الكتابة المتواصلة مرهقة جداً للكاتب على المستويات المختلفة. مرهقة على مستوى إيجاد الوقت والطاقة الجسدية والنفسية للجلوس ومن ثم تحويل فكرة ما إلى مادة مقروءة صالحة للاستهلاك البشري. ومرهقة أيضاً على مستوى إيجاد تلك الفكرة المستساغة أصلاً قبل ذلك. ومرهقة كذلك على مستوى مصارعة هاجس أن تروق المقالة بعدها للقراء، بحيث تكون متوائمة مع الأحداث السائدة أو مع اهتمامات الناس في لحظة النشر. ومرهقة فوقها على مستوى أن تكون منافسة لمقالات الزملاء الكتاب، كي يبقى الكاتب محتلاً مكانته المتميزة أو الجيدة على الأقل بين أقرانه، وألا تصبح كلماته مجرد حبر إضافي تم لطخه على ورق الصحيفة المطبوعة أو الإلكترونية، ليضاف إلى ذلك الركام الكثير الذي لا ينفك الكُتّاب عن تلويث الأوراق وإزعاج العالم به. إرهاق كبير وكثيف ومتراكم، ينتهي ليكون حالة ممتدة من الانزعاج المتواصل والقرف المستمر.
وهذا الكلام ينطبق طبعاً على أولئك الكُتّاب الذين يحملون هم الكتابة حقاً، وأعني بذلك الذين يستشعرون مسؤولية هذه الصنعة، ويدركون أن كلماتهم التي سيكتب لها أن تنجو من هذه المعاناة وهذا الشعور الضاغط بالمسؤولية ستكون سلاحاً فعالاً يمكن له أن يفتح ويخترق عشرات الأبواب المغلقة والجدران المحصنة، فيصل إما إلى الخير والصلاح وإما إلى الشر والغي. وأما أولئك الكُتّاب المزيفون والطارئون الذين دخلوا عالم الكتابة تسللاً من الشبابيك أو قفزاً على الأسوار، فهم لا يعيشون هذا الهمّ، بل لا يدركون معناه، لأنهم لا يستشعرون شيئاً من معاناة الكتابة مطلقاً، وقصارى الأمر بالنسبة لهم البريق والشهرة.وفي هذه اللحظة سأقول إني أدرك أن مصطلح "القرف" قد يبدو فجاً ومستفزاً لبعضكم، وان البعض أيضاً قد يكون تساءل بما الذي يجبر أياً كان على الاستمرار في تجرع مثل هذا القرف؟ والإجابة هي أن الكاتب الحقيقي يصل مع مرور الوقت إلى حالة من إدمان هذه الحالة المتوترة الدائمة، وهي حالة لا فكاك منها، فيصبح غير قادر على الحياة بعيداً عن هذا التوتر، وعاجزاً عن العيش بشكل طبيعي حين يأخذ إجازة مثلاً فيتوقف عن الكتابة فيها ولو لبعض من الوقت. هو مزيج من الشعور بإدمان الحالة الكتابية والممارسة نفسها، وكذلك الشعور بالمسؤولية تجاه النفس وتجاه الكلمة وتجاه القارئ. يستشعر الكاتب الحقيقي أن مساحته وكلماته، كائناً ما كانت طبيعتها وكائناً ما كان موضوعها، هي مساحة لابد لها أن يتم ملئها، وكلمات لابد لها أن تخرج كي تتخذ وضعها في هذه الحياة، وأنه لا أحد غيره قادر أن يعبر عن أفكاره بذات الطريقة التي سيعبر بها عنها.الأديب الأرجنتيني الشهير خورخي بورخيس حين سألوه لمن يكتب قال: "أكتب لنفسي". وقد مارست حقي في فهم العبارة كما يحلو لي، ففهمت أن الكاتب الحق يجب أن يكتب لنفسه، أي يكتب وفقاً لما يرضي ذائقته، وهي ذائقة نزقة كنزق حسناء مغرورة بعيدة المنال، فهو لا يكتب إلا ما يصل إلى أعلى مقاييس رضاه عن نفسه فكراً وخلقاً ومقاماً، ونيل هذا الرضا صعب جداً ومتعب.نعم، هي حالة قرف، بالنسبة لي على الأقل، وبالذات في اللحظات الأولى لتشكل المقالة وتحول الأفكار إلى كلمات مكتوبة، لكنها سرعان ما تصبح حالة من الانتشاء والبهجة التي لا يضاهيها شعور آخر حين تولد المقالة وتجد طريقها إلى النشر، ولهذا لا يمكن لي أن أتنازل عنها أبداً، أو أن أجد راحة في غيرها!
مقالات
قرف الكتابة!
30-12-2012