أصدرت مجموعة «كتاب فاطمة» وترثي فيها زوجتك الراحلة وجنينيها، ثم أصدرت «ديوان رثاء الزوجات» ويتضمن نحو 180 قصيدة من الزمن السومري إلى قصيدة النثر. والسؤال: كيف عشت لحظة الرثاء بعد رحيل زوجتك، وكيف كانت لك القدرة على الكتابة عن الموضوع؟

Ad

 

كان شتاء قاسياً حقاً، وكانت كتابة تلك المرثية تجربة موجعة ولا ريب، تبدو وكأنَّ الروح حطب يشتعل في ذلك الشتاء، تجربة مبرِّحة يمكنني وصفها، كذلك، بدخول قسري إلى غرفة تعذيب نفسي! انفضَّ المعزُّون كما يحدث عادةً، ووجدتُ نفسي مع أشيائها بدونها. كانت القصيدة محاورة مع الغياب متمثلاً بتلك الأشياء الأكثر رسوخاً من البشر! وكانت أيامي تلك محاكاة مع حياتها معي، حيث تتكثَّفُ الذكريات وتفيض بقوة الطوفان الداخلي. الحديث مجدَّداً عن تلك التجربة يعني الدخول ثانية إلى غرفة التعذيب تلك، لكن لا بأس فدرجة القسوة تغيرت نوعاً ما، بعدما اتسعت الغرفة قليلاً، وأصبحت بيتاً، فقلّتْ كثافة قسوتها على رغم أنها لا تزال متوزِّعة في تلك الأنحاء. ينبغي لي هنا أن أشير إلى أن يوميات التعذيب الروحي تلك كانت في جانبها الآخر تمثل صموداً أمام تلك الصدمات المبرحة، ولذا أنتجتْ نوعاً من الاستشفاء الذاتي، كانت نوعاً من السلوى أيضاً، ولا علاقة هنا للماسوشية بالأمر. في الواقع، لم تكن كتابة تلك المرثية كما اعتدت أن أكتب الشعر، فبينما كنت تنتظر أن تصبحوا أربعة في منزل، وإذا بك تجدُ نفسك وحيداً، أمام غياب مثلَّث! بينما الزمن الفاصل بين «الجمع والمفرد» ساعات قليلة، أي بين أن تلد التوأمين أو يرحلوا جميعاً.

كتبتُ في مكان ما من تلك المرثية:

أستَنفِرُ لأجلِكِ الشُّعراءَ

مِن كُلِّ العُصُورِ

بِذُقُونِهِم المُبتلَّةِ

ونظَّاراتِهِم اللاصِفةِ تحتَ مطرٍ مُعتِمٍ

لِيقرأوا مراثِيهُم

أمامَ وَجهَكِ النَّائمِ كنهارٍ فِي بِئرٍ.

من هنا كان كتاب «رثاء الزوجات» هو المرثية الجماعية لفاطمة، بعدما كان كتابها مرثيتي الشخصية لها، وكنت وأنا ألاحقُ نصوصَ الشعراء الذين رثوا زوجاتهم منذ تلك العصور السحيقة كأنني أبحث عن تفسير آخر لعقدة جلجامش وأسئلته العاجزة أمام الفناء والمصير البشري الحتمي. جعلت التجارب الشخصية، وبشكل خاص مع الموت، الكثير من البشر أبطالاً تراجيديين من دون رغبة لهم في ذلك.

في أكثر من موضع في النصوص التراثية العربية ترد عبارة أنَّ الرثاء هو الأجمل لأنه يخرج من «حرقة القلب». أي مرحلة تراثية أو معاصرة وجدت فيها المراثي أكثر خلقاً وتعبيراً وجمالاً؟

 

في التعريب لفكرة أرسطو وثنائيته عن مفهوم الشعر بين التراجيديا والكوميديا، أوجد النقد العربي ثنائية: المدح/ الهجاء لاختزال أغراض الشعر العربي، في غرضين محددين، أي أن ثمة شعراً يكثف الفضيلة، وآخر يهتمَّ بكشف الرذيلة.

الرثاء بهذا المعنى هو شعر تراجيدي بوصف أرسطو، لأنَّه يتحدَّث عن «فضائل» الغائب ومناقبه، فضلاً عن أن الغزل نوع من المدح أيضاً، ففي جانب منه ثمة استذكار لمناقب المندوب ووفي الجانب الموازي استدعاء لمحاسن المحبوب الخاصة، وهذا الجانب الأخير لا يتوافر في شعر مدح الملوك، وأصحاب الجاه مثلاً، لكنه يتعلق بقوة في جانب التغاير الجنساني بين الراثي والمرثي. من هنا التقط الدكتور عناد غزوان عبارة «المرثاة الغزلية» في بحثه «المرثاة الغزلية في الشعر العربي» لدراسة ظاهرة الرثاء القائمة على أساس ذلك التغاير. إنها ظاهرة تستحق دراسات أكثر، بدل الانشغال بظواهر مجترَّة ومكررة، وإعادة تمثل الطروحات حولها بفذلكات متنوعة حول طروحات مستقرة.

أما في ما يتعلق بالشق الثاني من سؤالك، فلا شك في أن قصيدة رثاء الزوجة والمرأة عموماً مرَّتْ بمراحل مختلفة في الطبيعة والمستوى، عبر العصور، وهذا الاختلاف تعود جذوره إلى سمات كل عصر بنفسه، ولهذا يمكنني القول إن العصر العباسي وفي موازاته الشعر في الأندلس، بين القرنين الرابع والخامس الهجريين، قد شهد ازدهاراً في تلك القصيدة كمَّاً وكيفاً، ففي تلك الحقبة تحولت الدولة إلى إمبراطورية، مما مكَّن من تداخل الثقافات وتمازج الأعراق، وانعكس التلاقح على طبيعة وجهة النظر بالمرأة عموماً، وأوجد نوعاً من التحول في الموقف السلبي السابق من ندبها ومدحها بالرثاء. فهناك، في الأندلس مثلاً، ولد أول ديوان معروف مخصص لرثاء المرأة، وهو لابن جُبير، كذلك نقرأ قصائد، هي عيون شعرية لذلك العصر لابن حمديس والأعمى التطيلي ولسان الدين بن الخطيب وابن الزقاق البلنسي وسواهم، وفي موازاتها، نواجه بلاغة جديدة في قصائد المشرق، كالشريف الرضي وابن الزيات والطغرائي.

أي رثاء جذبك في «ديوان رثاء الزوجات»، وهل أهملت قصائد لم تعجبك؟

كما تعرف، فإنَّ الكتاب ضخم بفعل شساعة العصور الزمنية التي يتقصى قصيدة رثاء الزوجة فيها، ولهذا فقد كان منهجي في الكتاب يقوم على الجمع بين الاختيار وبين التمثيل الدقيق للعصور كافة، فتلاحظ مثلاً أنني أوردتُ أكثر من نموذج لعددٍ من الشعراء أحياناً، بينما اكتفيت بمقطع أو مقاطع معينة لشعراء آخرين في أحيان أخرى، ولا شكَّ في أن ثمة قصائد أهملتها لأسباب تتعلق بالمنهج، أو أخرى لم أصل إليها فعلاً. أما بخصوص النماذج التي استوقفتني، فأستطيع القول إن غالبيتها فعلت ذلك، لأنني كما قلت لك كنت أنتقي، ولكن بالتأكيد ثمة تفاوت في مستوى الشعر، لدى كل شاعر عن شاعر آخر، وفي كل عصر عن آخر. لكنني إجمالاً أستطيع أن أشير إلى نماذج وتمثيلات محدَّدة في تلك القصائد، من مختلف العصور، بدءاً بمرثية الشاعر السومري لودنكيرا، التي افتتحت بها تقديمي لكتاب فاطمة، ومروراً بقصائد الشاعر العباسي  يعقوب بن الربيع، الذي أوقف شعره كله على رثاء زوجته وحبيبته «ملك» ومراثي ابن سناء الملك الرشيقة، والذي يبدو أنه فقد أكثر من زوجة في مقتبل العمر، والمرثية اللافتة لحنا الأسعد «من القرن التاسع عشر الميلادي» لزوجته الشابة، كذلك المرثية الملحمية الغاضبة لعبد المعين الملوحي، التي تعرضت لحملة كبرى ونشرت غالباً منقوصة بسبب احتجاجها الإنساني على القدر، وصولاً إلى مراثي يوسف الصائغ لزوجته جولي في «سيدة التفاحات الأربع» التي تمثل نموذج الحداثة الأبرز، وتمتاز بثرائها الداخلي العميق على رغم ما يبدو من اختزال خارجي وعدم إسهاب في شكلها وعباراتها.

ترد في مقدمة كتابك عبارة «رثاء الزوجات غزل بلا غايات» ولكن ألا تشعر أن بعض الرثاء قد يكون مثل غيره يقوم على الكذب؟

قد يكون شعر المدح بالمطلق منطوياً بشكل ما على إشكالية المبالغة والإفراط، وربما الوصول إلى ما أسميته الكذب، وهي إشكالية تلقفناها بالدراسات التقليدية وتحتاج إلى إعادة مراجعة كشأن الكثير من المفاهيم في ثقافتنا، ومع هذا فإنني أجد الأمر مختلفاً في شعر الرثاء، خصوصاً عندما يكون ذلك الرثاء شخصياً محضاً. إنها تجربة كيانية للذات، تتمثَّل في مفارقة الآخر وفقدانه قسرياً بفعل عامل حتمي ينوس بين الغيبي والواقعي وهو: الموت. أشرتُ في الدراسة التي قدَّمتُ بها الكتاب، إلى أنَّ قصيدة رثاء الزوجة تحمل الحوافز المركبة المعروفة التي عرَّفها النقاد العرب القدامى بأنها المصادر الروحية والجذور النفسية للقصيدة، فهذه النماذج من الأشعار تحمل محفزات شتى لا تكاد تجتمع في بقية أشعار الرثاء المعهودة، وهي الرغبة: وتتجسَّدُ في تأبين الجمال بالتغزُّل بمحاسن الفقيدة، والرَّهبة: وتكمن في صور الخوف من الموت الذي يدهم مضجع الزوج وسريره مباشرة. كذلك «الطرب» متمثلاً بكثافة التغني بذلك الجمال الذي اختطفه الموت. ولعلك تذكر هنا تلك المقولة الشهيرة في توصيف أشعر الشعراء، وأفضل الشعر، فقيل: «فلان إذا ركب، يقصدون وصف الرحلة، وفلان إذا رغب، وفلان إذا رهب، وفلان إذا طرب»، مع استبدال أسماء الشعراء أحياناً، أو إضافة حوافز أخرى كذلك، من دون أن تمس بجوهر تلك القاعدة الذهبية لمحفزات الشعور الإنساني لكتابة قصيدة جيدة.

الآن بعد إصدار كتابك، هل اكتشفت نصوصاً جديدة في رثاء الزوجات؟

كما قلت لك في إجابة سابقة، يتضمن الكتاب معظم ما وقعتُ عليه من مرثيات، ولكن بما أن الموت لا يحاط به بسهولة، ولا ينتظر المطابع لتنجز كتب الحياة والموت، فإن ثمة مرثيات أفلتتْ في زحمة الموت منِّي، وأخرى تزامنت مع صدور الكتاب أو سبقت تأليفه أو صدوره بقليل، وبعضها لأصدقاء فقدوا زوجاتهم، كغيلان وعلاء الدين عبد المولى، وعيسى الشيخ حسن وسواهم.

هل تطمح إلى تقديم كتاب جديد يقدم نصوصاً ترثي المرأة عموماً؟

لا. يا صديقي، أظنُّ حسبي هذا في ذلك الموضوع، لديَّ مشاريع أخرى من بينها مشروع موسوعي ضخم أعمل عليه منذ فترة، وهو يغطي عصوراً مماثلة لتلك التي قاربتها في «رثاء الزوجات». كذلك أكاد أفرغ من مشروع مختارات شعرية للشاعر ذي الغربة المركبة أحمد الصافي النجفي، كنوع من إعادة الاكتشاف والاعتبار لهذا الشاعر النادر في سلالة الشعر العربي. وطبعاً، ثمة انشغالاتي الدائمة في كتابة قصيدتي الشخصية. لكنني أودُّ أن أشير هنا إلى موضوع الرثاء العائلي الذي توقفت عنده وأنا أعدُّ كتابي عن رثاء الزوجات، ثمة نماذج وفرائد مهمة في هذا السياق، تتعلق برثاء المرأة، تستحق الدراسة.

هل يمكن للرثاء أن يكون من خلال رواية؟

بالتأكيد يمكن للرواية فعل هذا، لكن هل فعلتْ ذلك حتى الآن؟ طبعاً ثمة روايات كَتَبتْ سيرة الراحلين، وهي نوع من المراثي السردية بلا شك، لكن هل حدث مثل هذا؟ أعني روايات في رثاء المرأة، والزوجة تحديداً؟ هل ثمة نماذج واضحة تمثل هذا الاتجاه؟ أمام هذا الحشد والكثافة التي تضمنتها مرثيات الزوجات في الشعر العربي، هذا سؤال جدير بالبحث والتقصي حقاً.