أقل من حمار
يقول السيد بمبل، أحد شخصيات رواية أوليفر تويست: "إذا كان القانون يفترض هذا، فإن القانون حمار- أحمق". ولعقود من الزمان، كانت قوانين القذف والتشهير في بريطانيا على مستوى توقعات السيد بمبل، ولكن في شهر أبريل تلقت حرية التعبير دفعة كبيرة في أنحاء العالم المختلفة ـ واستعادت بريطانيا بعض الشيء سمعة الحس السليم التي اشتهرت بها- عندما أقر البرلمان تشريعاً يقضي بتنقيح قانون التشهير في البلاد.في ما مضى، كان كل من يدعي من الشركات أو الأفراد أنه تعرض للتشهير- حتى لو كان أصحاب الدعاوى القضائية أو الذين يزعمون أنهم شهَّروا بهم لا يربطهم إلا القليل أو لا شيء على الإطلاق بالمملكة المتحدة - يقيمون دعاوى التشهير في المحاكم البريطانية. حتى إن هذه الممارسة كانت معروفة على نطاق واسع باسم "سياحة التشهير".
والواقع أن العديد ممن أقاموا هذه الدعاوى القضائية- حكام القِلة من روسيا وأوكرانيا، وأمراء عرب، وحكام مستبدون من إفريقيا، وأرباب عمل بلا ضمائر- كانت فرص فوزهم ضئيلة، ولكن الهدف لم يكن الفوز. ففي كثير من الأحيان كانت موارد المدعى عليهم أقل، وهذا يعني أن قضية التشهير التي تضطر كلا الجانبين إلى إنفاق مبالغ كبيرة قد تكون فعّالة في إسكات المنتقدين حتى لو لم تنجح. وداخل المملكة المتحدة ذاتها، كان القانون يعني عدم القدرة على مناقشة العديد من القضايا المهمة بشكل كامل. وبوسعنا أن نعزو إقرار إصلاح قانون التشهير إلى حملة أطلقتها قبل أكثر من ثلاثة أعوام ثلاث منظمات: رابطة "بِن" الإنكليزية للكتاب؛ ومجلة "مؤشر الرقابة" وهي مجلة نصف شهرية كانت على مدى العقود الأربعة الماضية ترصد الرقابة في أنحاء العالم المختلفة، وتنشر أعمال الكتاب الذين تحظر الرقابة نشر أعمالهم؛ ومنظمة "إدراك العلم" التي تشجع المعرفة العلمية وفهم العلم. وكان استهداف المجلات العلمية والعلماء بسبب فضحهم للدجالين من بين العوامل الرئيسة في توليد الدعم الشعبي لإصلاح قانون التشهير في المملكة المتحدة. ومن بين الحالات التي دخل فيها العلم الدعوى المقامة ضد مجلة "الطبيعة"، وهي واحدة من أفضل المجلات العلمية وأكثرها احتراماً على مستوى العالم. فقد اضطرت مجلة الطبيعة إلى التعامل مع دعوى تشهير لأنها أشارت إلى أن إحدى مجلات الفيزياء نشرت العديد من المقالات التي كتبها رئيس تحريرها، وأن هذه المقالات لم تلب معيار استعراض رأي الأقران. ورغم أن مجلة الطبيعة نجحت في الدفاع عن نفسها، فإن الدعوى كلفتها كثيراً من المال وقيدت العديد من العاملين لديها لفترة طويلة، واشتملت دعاوى تشهير أخرى على علاجات غير مثبتة للسرطان.ولعل القضية المرتبطة بالعلوم التي لعبت الدور الأعظم في الحملة كانت دعوى أقامتها جمعية تقويم العمود الفقري البريطانية ضد كاتب العلوم سيمون سينغ بسبب مقال نشره في "الغارديان" عام 2008، ناقش فيه "علاجات وهمية". وكسب سينغ القضية، ولكنه كلفته غالياً من القوت والنفقات القانونية.ومن بين القضايا التي توضح لنا ذلك النوع من "السياحة" التي يشجعها القانون دعوى قضائية أقامها رجل أعمال سعودي ضد كاتبة أميركية قالت في كتابها إن رجل الأعمال قدم دعماً مالياً لتنظيم "القاعدة". ويبدو أن 23 نسخة من الكتاب بيعت في المملكة المتحدة، فتوافرت بذلك الصلة الكافية لحمل المحاكم البريطانية على قبول الاختصاص. ورغم أن الكاتبة الأميركية لم توكل محامياً بريطانيا ولم تحاول الدفاع عن نفسها في المملكة المتحدة، فقد أُمِرَت بدفع تعويضات، الأمر الذي أثار غضباً في الولايات المتحدة. حتى إن الكونغرس الأميركي تبنى تشريعاً وقعه الرئيس الأميركي باراك أوباما ويجعل مثل هذه الأحكام غير قابلة للتنفيذ في المحاكم الأميركية. ويستمر القانون البريطاني المنقح في وضع عبء الإثبات على عاتق الدفاع، ولكن المعيار الذي يتوجب تلبيته تغير، فالقانون الجديد يسمح للكاتب أو الناشر المقامة ضده الدعوى القانونية بالاستعانة بدفاع "المصلحة العامة". وعلاوة على ذلك فإن الشركات والجمعيات الخيرية وغير ذلك من المؤسسات التي تقيم دعاوى التشهير ستضطر الآن إلى إثبات تعرضها لأضرار مالية، ويزعم سينغ أن هذا المتطلب في حد ذاته كان سيحول دون إمكانية استمرار نظر القضية المقامة ضده من قِبَل جمعية تقويم العمود الفقري البريطانية. وستتضاءل سياحة التشهير بشكل كبير بفضل قاعدة جديدة تستبعد الدعاوى القضائية من خارج الاتحاد الأوروبي إذا لم يستطع مقيم الدعوى إثبات أن المملكة المتحدة المكان الأنسب لإقامة الدعوى.ولقد عملت شركات المحاماة البريطانية، التي يبدو أنها جمعت الكثير من المال بتمثيل المدعين في قضايا التشهير من أنحاء العالم المختلفة على إعاقة تبني القانون الجديد من خلال الضغوط المكثفة. وفي البرلمان كان اللورد لاستر في عون العلماء والكتاب والناشطين المناهضين للرقابة الذين قادوا الحملة. واللورد لاستر محام بريطاني معروف اشتهر بالدفاع عن الحريات المدنية، وهو الذي قدم مشروع قانون الأعضاء الخاصة في عام 2010، وفي النهاية بموافقة الأحزاب السياسية الثلاثة الكبرى على إصلاح القانون.قبل ما يقرب من أربعمئة عام، وفي عام 1644 على وجه التحديد، نشر جون ميلتون مقاله النثري "أغريوباجيتيكا"، الذي ندد فيه بتدبير تم إقراره في البرلمان ويقضي بإصدار تراخيص للصحافة كان المقصود منه بين أمور أخرى قمع المنشورات التشهيرية. ويُنظَر إلى هذا المقال على نطاق واسع باعتباره بداية حركة حرية التعبير والصحافة في أنحاء العالم المختلفة. ويشير انتصار العلماء والكتاب والناشطين المناهضين للرقابة الشهر الماضي إلى أن الحركة التي أطلقها ميلتون لا تزال نابضة للحياة في بلده.* أرييه نيير ، الرئيس الفخري لمؤسسات المجتمع المفتوح، وأحد مؤسسي منظمة هيومن رايتس ووتش، ومؤلف كتاب "أخذ الحريات: أربعة عقود من النضال من أجل الحقوق".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»