خلال زيارتي للمملكة المتحدة الأسبوع الماضي أدركتُ للمرة الأولى أن بريطانيا قد تتخلى حقاً عن الاتحاد الأوروبي، ولا شك أنها تكلمت عن هذا الاحتمال مرات عدة منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، لكننا تمكنّا طوال سنوات من تجاهل هذا التشكي المستمر، معتبرين إياه أمراً ثانوياً لا أكثر، لكن الأوضاع تبدلت، فقد تشددت المواقف، وبعد أن وعد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون باستفتاء يحدد ما إذا كانت المملكة المتحدة ستبقى عضواً في الاتحاد الأوروبي عقب الانتخابات المقبلة، وضع البلاد على الأرجح على درب يرغمها على الاختيار.

Ad

إذا أُجري غداً الاستفتاء، الذي وعد بعقده كاميرون عام 2017، فلن تبقى المملكة المتحدة جزءاً من الاتحاد الأوروبي على الأرجح. تُظهر استطلاعات الرأي، التي أجراها "مشروع بيو للمواقف العالمية"، أن 26% فقط من البريطانيين يعتقدون أن التكامل الاقتصادي الأوروبي يساعد اقتصادهم، و43% فقط يملكون نظرة إيجابية إلى الاتحاد الأوروبي. كذلك كشفت أخيراً استطلاعات رأي أخرى أن الأغلبية (وإن لم تكن عظمى) تؤيد الخروج.

على كاميرون أن يفوز في انتخابات أخرى ليفي بوعده هذا بشأن الاستفتاء، وبما أن حكومته لا تتمتع بالشعبية الضرورية، يبدو ذلك مستبعداً، ولكن قد يُضطر حزب العمال المعارض أيضاً إلى التعهد بإجراء الاستفتاء عندما تلوح في الأفق الانتخابات عام 2015، خصوصاً أن حزب استقلال المملكة المتحدة الملتزم بالخروج من الاتحاد الأوروبي يزداد قوة، فقد تمكن من حشد دعم يفوق ما يتمتع به الديمقراطيون الليبراليون الموالون للوحدة الأوروبية، ومن الصعب الترشح وفق برنامج يحرم الناخبين حرية الاختيار.

معاهدة جديدة

لا يُعتبر كاميرون من المناهضين للوحدة الأوروبية: فهو قائد داعم للاتحاد الأوروبي يرأس حزباً عانى انقساماً عميقاً حول هذه المسألة، ولكن كي يصون وحدة المحافظين ويبقي البلد في الاتحاد الأوروبي، يحتاج إلى وضع معاهدة أوروبية جديدة تلائم تطلعات البريطانيين قبل إجراء الاستفتاء، لكن سائر قادة الاتحاد الأوروبي يصرون على رفضهم ذلك.

يحاول مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي استغلال هذه النقطة، ففي مقال نُشر في صحيفة "ذا تايمز" البريطانية الأسبوع الماضي، ذكر نايغل لاوسون، محافظ تبوأ سابقاً منصب وزير الخزانة البريطانية (ويُعتبر من القوميين المتشددين)، أنه لا يتوقع الكثير من إعادة التفاوض، ويصوّت للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ويشاطره رأيه هذا وزراء سابقون كثر.

إليكم المفاجأة: لم تُعتبر هذه الآراء متهورة أو غريبة، كما جرت العادة سابقاً، وهكذا ظهرت مسألة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي فجأة على الأجندة. أصبح معظم وسط لندن التجاري والمالي اليوم مناهضا للوحدة الأوروبية، رداً على ما يراه كثيرون هجوماً تنظيمياً انتقامياً تشنه بروكسل. اعتادت الشركات البريطانية في الماضي دعم الوحدة الأوروبية بقوة، إلا أن الأحوال تغيرت، فما بدا في الماضي خطراً تافهاً أو حتى سخيفاً على الأرجح تحوّل اليوم إلى احتمال حقيقي.

أعتقد أن السؤال "هل يجب أن تبقى المملكة المتحدة جزءاً من الاتحاد الأوروبي؟" بات أكثر إلحاحاً مما يريد الطرفان الإقرار به. وكما يقول كاميرون، يعتمد الجواب على الظروف. فإن واجه الاتحاد الأوروبي الأزمة الاقتصادية بخطوات جديدة تقوده نحو تأليف "ولايات متحدة أوروبية"، فلا شك أن الكلفة التي ستتكبدها المملكة المتحدة ستفوق المكاسب: فلا تريد بريطانيا أن تكون جزءاً من ذلك، وإن تطلبت عضوية الاتحاد الأوروبي تبني عملة اليورو (وهذا النموذج السائد، كما لو أن الأزمة لم تحدث مطلقاً)، فلا شك أن بريطانيا سترفض.

بينما تتحوّل التجارة الحرة إلى العرف العالمي المتبع، تصبح فوائد الدخول بحرية إلى أسواق أوروبا أقل، فضلاً عن أنها لم تعد حكراً على أعضاء الاتحاد الأوروبي. ناقش كاميرون، خلال زيارته الرئيس باراك أوباما في واشنطن، اتفاق التجارة المقترح بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. سبق أن وقعت الولايات المتحدة اتفاقات تجارة حرة مع مختلف مناطق العالم، وتستطيع المملكة المتحدة أن تحذو حذوها.

حجج أفضل

تحتاج القوى المؤيدة للوحدة الأوروبية في بريطانيا إلى حجج أفضل على أقل تقدير، يقولون إن ما كان على كاميرون أن يثير هذه المسألة في المقام الأول، مشيرين ضمناً إلى حرمان المصوتين من حقهم في الاختيار. ولكن ما رأي الناخبين في ذلك؟ لا ينفك مؤيدو الوحدة يرددون أن الخروج مسألة غير واردة، إلا أنهم لا يذكرون السبب. فما الذي يجعل علاقة سويسرا بالاتحاد الأوروبي أمراً محسوماً؟ يظنون أن على بريطانيا أن تقود أوروبا، وأنها بذلك تعزز نفوذها العالمي، لكن هذا مجرد وهم، فلمَ على بريطانيا أن تقود اتحاداً يضمّ 27 بلداً، علماً أنها ستصبح قريباً 28؟

لنتأمل مثال كندا؛ تمثل هذه الدولة اقتصاداً صغيراً إلى جانب اقتصاد كبير، ولا شك أن نفوذها العالمي محدود بسبب حجمها، ولكن هل تحقق إنجازات أفضل لو كانت جزءاً من الولايات المتحدة الأميركية؟ هل تكسب نفوذاً عالمياً أكبر؟ أوَلا يتخلى الكنديون بذلك عن أمر يعزونه ويقدرونه جداً؟ من الضروري أن يتوصل مؤيدو الوحدة الأوروبية إلى أجوبة عن هذه الأسئلة.

على حكومات الاتحاد الأوروبي الأخرى أن تقرّ (مع أن هذا مؤلم، إلا أنه يخدم مصلحة أوروبا) أن كاميرون محقّ بشأن الحاجة إلى تسوية دستورية جديدة، فتُظهر دراسة "مشروع بيو" أن الاستياء من أداء الاتحاد الأوروبي لا يقتصر البتة على المملكة المتحدة. كذلك لا تنحسر مشاعر الرفض والشكوى في الجنوب، فقد تبيّن أن دعم الاتحاد في فرنسا، إحدى الدول المؤسسة لهذا المشروع، بات أدنى مما نراه في بريطانيا.

هل يمكننا أن نجزم أن مشاكل أوروبا الاقتصادية لا تثير أي تساؤلات بشأن التوجه الدستوري في الاتحاد الأوروبي، وأنه من غير الممكن إعادة النظر في الالتزام بـ"اتحاد متماسك" تُحدَّد معالمه في الوثائق التأسيسية، وأن نظام اليورو، رغم كل صعوباته، يتمتع بأسس سليمة؟ هذا ما يطلبه القادة الأوروبيون من الناخبين الأوروبيين المشككين باستمرار الإيمان به.

يذكر منتقدو كاميرون أنه شخص مشاغب، لكنني لا أشاطرهم الرأي، فالخطر الحقيقي الذي يهدد الاتحاد الأوروبي يكمن في رفض القادة الآخرين على نحو غريب الإقرار بما يحدث حقاً.

كليف كروك Clive Crook