في الوقت الذي تدخل فيه أزمة منطقة اليورو سنتها الرابعة، تواجه الصناعة في القارة الأوروبية ضغوطاً قوية، كما لو كانت ناتجة عن ضغط ملزمة ميكانيكية خفية.

Ad

فمنذ أن ضربت الأزمة المالية العالم في عام 2008 حتى الآن فقد الأوروبيون نحو 3.5 ملايين وظيفة. وكانت «فورد موتور»، و»داو كيميكال»، و»تاتا ستيل»، وصانعة توربينات الرياح «فيستاس»، من بين الشركات الصناعية التي أعلنت إغلاق مصانع لها وتقليص الوظائف في الأشهر الأخيرة، استجابة لانخفاض الطلب على منتجاتها.

ولايزال الإنتاج الصناعي الأوروبي منخفضاً بنسبة 10 في المئة عن المستويات التي كان عليها قبل أزمة عام 2008.

ولأن ثقة الأعمال والمستهلكين تتناقص في فترات الركود الاقتصادي، فقد تناقصت مبيعات السيارات الأوروبية إلى أدنى مستوى بلغته خلال عقدين تقريباً، وهي الصناعة التي تعتمد عليها صناعات أخرى، مثل الفولاذ وأشباه الموصلات والمطاط والبلاستيك.

وفي الوقت نفسه، يزيد منافسو الصناعة الأوروبية من ضغوطهم. ففي الولايات المتحدة ساعدت اكتشافات الغاز الصخري على إعادة الحيوية للصناعة في البلاد، وقللت من أسعار مواد اللقيم، ووفرت الأساس لاستثمارات جديدة في قطاع البتروكيماويات.

وفي اليابان، حيث الشركات تواجه صعوبات منذ سنوات بسبب القوة النسبية للين، يستفيد الصنّاع الآن من السياسات التوسعية لرئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي.

أرباح تشغيلية

وبحسب تقديرات شركة تويوتا لصناعة السيارات، فإن كل ين إضافي يتم شراؤه بالدولار على مدى سنة، يجعل أرباحها التشغيلية ترتفع بمقدار 35 مليار ين (350 مليون دولار).

أما الأمر المهم الآخر، فهو أن شركات الصناعة الصينية لم تعد قانعة بأن تكون ورشة عمل العالم، وهي تلقى التشجيع الآن من بكين من أجل الارتقاء في سلسلة القيمة.

وأصبح التهديد التنافسي الصيني لأوروبا واضحاً في مجالات مثل أجهزة التكنولوجيا الشمسية ومعدات الاتصالات. وقد أعلن عدد من شركات الطاقة الشمسية الأوروبية إفلاسها في العام الماضي، بسبب فائض الطاقة الإنتاجية الصينية الذي دفع بأسعار هذه الأجهزة إلى الأدنى. واضطرت شركة نوكيا سيمينز، وهي مشروع مشترك لأجهزة الاتصالات، إلى إلغاء 17 ألف وظيفة بعد أن خرجت الأعمال الأساسية من دائرة المنافسة السلعية إثر وصول أجهزة الاتصالات الرخيصة التي تصنعها شركات صينية مثل هيوواي وZTI.

وتعطي براءات الاختراع مؤشراً على التهديد المدمر للتنافسية. ففي العقد الماضي ارتفع عدد طلبات الشركات الأوروبية لبراءات الاختراع من 160 ألفا قبل عشر سنوات إلى 260 ألف طلب. وفي الفترة الزمنية نفسها ارتفع عدد طلبات براءات الاختراع المقدمة من الصينيين من 80 ألف طلب إلى 650 ألفا.

وهذا مثير للقلق، ويعتقد خبراء في الصناعة أن العالم يقف على حافة ثورة صناعية جديدة تقوم على شبكات الطاقة الذكية وطرق إنتاج جديدة، مثل استخدام الروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد والأجهزة الرقمية المشبكة.

وفي استطلاع أجرته شركة أكسينتشر الاستشارية لمصلحة مجموعة ضغط خاصة بالأعمال تسمى بيزنيس يوروب، تبين أن أكثر من ثلثي قادة الأعمال ممن تم استطلاع آرائهم يعتقدون أن الصين ستصل إلى مستوى أوروبا، أو تتقدم عليها في مجال الابتكارات في غضون عشر سنوات من الآن.

ويحذر فولكمار دينر، الرئيس التنفيذي لشركة بوش، المورد الألماني لقطع السيارات قائلا: «وضعنا الريادي غير مضمون إلى الأبد. الابتكار والإبداع أمران أساسيان لإبقاء رفاهيتنا، أو الارتقاء بها. ومن المكونات المهمة لذلك التعليم والأبحاث والتطوير، إلى جانب ثقافة جديدة حول الشركات الناشئة».

ويقول صناع السياسة والأعمال، إنهم واعون لتلك الأخطار، وإن مشاكل أوروبا الصناعية أصبحت غير قابلة لعكس الاتجاه.

ويلاحظ بيتر لوشر، الرئيس التنفيذي لمجموعة سيمينز الهندسية الألمانية، أن أحد نتائج الأزمة المالية المهمة أن الصناعة سبقت الأجندة السياسية في أوروبا، في وقت تصرخ فيه الحكومات الأوروبية مدعية أنها هي من دعم الصناعة. ويقول: «أطلقت هذه الأزمة في كل أنحاء العالم قضية أهمية الجانب الصناعي للاقتصاد، كمفتاح لتكوين الثروة. وقد أصبحت هذه القضية أحد العناصر الأساسية للأجندة السياسية».

وتريد المفوضية الأوروبية إعادة تصنيع أوروبا، وتسعى إلى رفع حصة الصناعة من الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي من 15.6 في المئة إلى 20 في المئة بحلول عام 2020، عن طريق تحسين المهارات وتسهيل الحصول على التمويل. وقد وعد زعماء حكومات الاتحاد الأوروبي في الأسبوع الماضي بضمان توفير الطاقة التي تكون في مقدور الأسر والشركات، للحفاظ على تنافسية أوروبا.

وقود أحفوري

وانخفضت أسعار الغاز في الولايات المتحدة إلى مستوى يعادل ربع ما هي عليه في أوروبا، بينما أسعار الكهرباء في أوروبا ضعف ما هي عليه في الولايات المتحدة. وتشكل ألمانيا رأس الحربة في الانتقال من الوقود الأحفوري والطاقة النووية المكلفين إلى موارد الطاقة المتجددة.

ويحذر كورت بوك، الرئيس التنفيذي لشركة باسف، أكبر صانع للكيماويات في العالم من حيث المبيعات، من أن: «الصناعة تحتاج إلى كهرباء وطاقة بأسعار منافسة، لإنتاج سلع ذات نوعية عالية في ألمانيا وتوريدها إلى الأسواق العالمية».

وفي أطراف أوروبا، أصبحت شروط الإقراض الصعبة مشكلة كبيرة جداً بالنسبة لأصحاب الصناعة، خصوصا أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وقد عمل هذا على منع هذه المؤسسات من الاستثمار في البحث والتطوير والوصول إلى أسواق تصدير جديدة خارج أوروبا. والفجوة بين ما تدفعه الشركات الألمانية للبنوك من فوائد على القروض، وما يجب أن تدفعه نظيراتها الإسبانية والإيطالية، وصلت إلى أرقام قياسية هذا العام.

ويقول فلافيو راديس، رئيس بيترو كارناجي، الشركة العالمية الرائدة في المخارط العمودية: «هذا يشكل كارثة كبيرة جداً للشركات الصغيرة، ولذلك تأثير كبير جدا على إيطاليا».

وتعكس معدلات التمويل المختلفة هذه التباين الإقليمي الواسع في الصناعة الأوروبية. إذ رغم التحسن الذي ظهر مؤخراً على القدرة التنافسية، نتيجة للإصلاحات الاقتصادية في اليونان وإسبانيا وإيطاليا، فإننا نجد الإنتاج في هذه البلدان لايزال أقل بما يعادل ربع ما كان عليه في الذروات التي وصل إليها في عام 2008. أما في ألمانيا فالإنتاج الصناعي أقل بنسبة 5 في المئة فقط.

وفي الحقيقة، هناك قدر كبير من التفاؤل من منظور الدول المنتجة للبضائع الرأسمالية التي يقع أغلبها في شمال أوروبا.

وتبقى أوروبا قائداً عالمياً في مجالات صناعة السيارات والشاحنات والصناعات الفضائية والطيران والكيماويات، وهي سلع أقل عرضة للتنافس مع البضائع قليلة التكلفة. وما يبقيها مصدراً للقوة هو تركيزها على الأسواق المتخصصة في التكنولوجيا العالية. وبحسب أكسينتشر «هناك طمس للمعالم القديمة بين الصناعة والخدمات». وفي هذا المجال تحرز أوروبا مرة أخرى علامات عالية، إذ تحقق بعض الشركات الأوروبية نحو نصف عائداتها وأرباحها ليس فقط من إنتاجها للأشياء، ولكن من توفير الخدمات لزبائنها. وتستطيع الشركات الأوروبية المنتجة للبضائع الرأسمالية أن تعوض الضعف الأوروبي في المبيعات في الأسواق الناشئة. فرغم المعاناة التي تواجهها بعض شركات صناعة السيارات ذات الإمكانات المحدودة للتصدير، مثل بي إس آي وبيجو سيتروين، فإن السيارات الواقعة في أعلى طيف السيارات الفاخرة، مثل ديملر بنز وبي إم دبليو وفولكسفاغن تنعم بالانتعاش بفضل الطلب عليها في الأسواق الأميركية والصينية.

ويقول ماتي ألاهوهتا، الرئيس التنفيذي لشركة كون الفنلندية لصناعة المصاعد: «الشركات التي طورت لنفسها موقعاً قوياً في مرحلة مبكرة في الأسواق الآسيوية السريعة النمو، تمكنت من إدارة هذا الوضع الصعب بصورة جيدة».

استثمارات صناعية

ويضيف هاكام سامويلسون، الرئيس التنفيذي لشركة فولفو للسيارات، موافقاً على ذلك: «ليس مصادفة أن نرى الشركات التي ركزت بصورة مبكرة على الأسواق الناشئة هي شركات ناجحة الآن».

ومع ذلك، المخاوف الناتجة من عدم رؤية انتعاش في الطلب على المنتجات الأوروبية في الأفق، ربما تدفع بالاستثمارات الصناعية الجديدة للذهاب إلى أماكن أخرى. وحتى لو حققت الشركات الصناعية الأوروبية نجاحاً في الأسواق العالمية، فربما لا يترجم هذا إلى خلق وظائف جديدة داخل بلادها.

ويقول واحد من كبار الصناعيين الأوروبيين: «حين تنظر إلى النمو -ليس فقط في المبيعات، وإنما في فتح المصانع وإنشاء مرافق الأبحاث والتكوير– تجده كله يأتي من الأسواق الجديدة. أنا أعلم أن هذا يعني أن شركتي ستكون في وضع جيد، لكن هل هذا يساعد أوروبا؟».

*(فايننشيال تايمز)