يقع الكتاب في أربعة أقسام، الأول مقدمة ودراسة  لنموذجين للمسرح الغنائي عنده: «كلها يومين» التي قدمتها فرقة منيرة المهدية عام 1921، و{مال الكنزي للنزهي» والتي كتبها شعراً ونشرها في مجلة «النيل» عام 1921. وقدم القسم الثاني معظم قصائده المنشورة في الدوريات المختلفة مثل «شوارع العاصمة وصف رأس البر ومصر جنة والنيل كوثر وطلعت المحمل». أما القسم الثالث فتناول الأغاني العامة والأناشيد مثل «بلادي بلادي» و{استني عليّ شويه» و{كله إلا كده»، في حين ضمّ القسم الرابع الأشعار المسرحية. وكان القاضي أحد الذين آمنوا بضرورة إبداع كل ما يدعم الشخصية المصرية.  

Ad

يشعر القارئ بالدهشة حين يتبين له أن الشيخ محمد يونس القاضي (1888 – 1969) مؤلف الكثير من الأعمال الشعرية التي أطربت الكثيرين وحركت وجدانهم، مثل النشيد الوطني المصري «بلادي بلادي بلادي/ لك حبي وفؤادي» و{حب الوطن فرض عليا/ أفديه بروحي وعنيا»، و{زوروني في السنة مرة» لسيد درويش هو نفسه مؤلف الأغاني التي وصفت بـ»الماجنة». والمفارقة أن يونس القاضي كان أحد المعممين الذين أحدثوا تغييراً في مسار الموسيقى والغناء العربيين، فالمتتبع لبداية ورحلة مشوار الغناء المصري سيجد مفارقة جديرة بالنشر والطرح والمناقشة، وهي أن أعلام الطرب حققوا شهرة من حملة القرآن الكريم حفظاً وتجويداً ودراسة في الأزهر.

تحرير الموسيقى

ومع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حدثت انتفاضة مصرية لأنها بحسب بعض النقاد حرّرت الموسيقى العربيّة من هيمنة الموسيقى الفارسيّة، والغجريّة والتركية.

وكان من هؤلاء علماء ارتادوا مجال كتابة الأغاني مثل الشيخ عبدالرحمن قراعة مفتي الديار المصرية الذي غنى قصائده عبده الحامولي، والشيخ عبدالله البشري شيخ الأزهر الذي غنى كلماته الشيخ أبوالعلا محمد أستاذ أم كلثوم... هؤلاء جميعاً كانوا أصحاب النهضة في الغناء في مصر، وأخرجوه من خلف أسوار الحريم. والأكثر من هذا أن اثنين من شيوخ الأزهر هما شهاب الدين محمد ومحمد عبدالرحيم المسلوب كان لهما فضل الريادة في ساحة الغناء، حيث وضع شهاب أول كتاب جامع أسماه «سفينة شهاب» جمع فيه مئات من التواشيح الأندلسية، ولم يكن المغنون والملحنون في أيامه (الربع الأول من القرن التاسع عشر) يعرفون عنها شيئاً. أما الشيخ المسلوب فإليه يرجع فضل تقديم «الدور الغنائي» وفتح الطريق أمام عبده الحامولي ومحمد عثمان لينجحا فيه ويسيطرا على أسماع الناس في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى أواخر النصف الأول من القرن العشرين.  

 ويعد يونس القاضي أحد الرواد الذين أثروا الحركة الثقافية في بداية القرن الماضي، فعُرِفَ كزجال وبدأ حياته صحافياً في جريدتي «المؤيد» و{اللواء»، وكتب في كثير من الصحف، كذلك نُشرت أزجاله في الصحف والمجلات كـ»السيف والمسامير والكشكول واللطائف وإياك والعروسة»... التقى وهو لا يزال طالباً يافعاً في الأزهر بالزعيم المصري مصطفى كامل (1874 – 1908)،  وقد استشف من أحدى خطبه كلمات نشيد «بلادي بلدي».

وفضلاً عن أن يونس القاضي يعد أحد أعمدة المسرح المصري عموماً والمسرح الغنائي خصوصاً، فإن أشعاره أشهر منه. من منا لا يذكر أغانيه: «يا بلح زغلول»، «زوروني كل سنة مرة»، «أنا هويت وانتهيت» التي قدمها لسيد درويش. كان القاضي لنواة لثقافة التحرر وكسر الأقفال التي تضعها التقاليد والبطريركية، لكن القاضي نفسه سرعان ما تحول إلى ثقافة الأقفال والمنع حين صار رقيباً ومنع بعض طقاطيقه «الفاحشة» حرصاً على الذوق العام.   

عبد الوهاب

 وتمتد علاقات القاضي بكبار الموسيقيين والمطربين، فيقول في أحد حواراته الصحفية: {عرفت عبد الوهاب قبل أن أقدمه إلى الشيخ سيد درويش ببضع سنوات وكان يعمل في محل الترزي أحمد يوسف وكان شقيقه محمد يوسف فناناً قديراً فلفت أنظارنا إلى الصبي الصغير الذي يرتدي الجاكيت فوق الجلباب وكنت وقتئذ أعد رواية لفوزي الجزايرلي وهو على صلة بالشيخ حسن عبد الوهاب شقيق محمد وطلبنا منه أن يأتي لنا بشقيقه ليغني بين فصول الرواية، يقصد المسرحية، وجاء عبد الوهاب وغنى بثلاثة قروش صاغ في الليلة}. ويضيف القاضي: {ولكن كان هناك أجر أدفعه أنا لعبد الوهاب سواء غنى أو لم يغن وكان يرفض الغناء إلا إذا تناول طبق العاشورة... وحين توفي الشيخ سلامة حجازي عام 1916 انفسح المجال لعبد الوهاب وأتيحت له فرصة الغناء والتمثيل في المسرحيات مثل شهوزاد المعروفة باسم شهرزاد وبعدها غنى بدلاً من سيد درويش في رواية الباروكة ورحب به سيد وحياه قائلاً: ولد عال ولازم يكون حاجة كبيرة في المستقبل}.

كذلك ساهم يونس القاضي في اكتشاف أم كلثوم، فقد سافر إليها في قريتها طماي الزهايرة في المنصورة وأقنع والدها الشيخ إبراهيم بالمجيء إلى القاهرة والتحول إلى غناء القصائد والأغاني العاطفية والوطنية إلى جانب الإنشاد الديني ولكن والدها لم يرض. ومرت الأيام وقد التقاهم القاضي في مولد الحسين وكان معه سيد درويش وعرض أن يقدم لها الألحان مجاناً إلا أن والدها رفض رفضاً باتاً. وظل القاضي يلح على والدها إلى أنا وافق أن تغني قصائد عبده الحامولي ومنها أغنية {وحقك انت المني والطلب} وبعدها لحن لها عبد الوهاب أغنية خفيفة من تأليف يونس القاضي مطلعها {قال إيه حلف ما يكلمنيش}، وسرعان ما اشتهرت بها حتى أصبحت تنافس الست منيرة المهدية في زمانها وصارت في ما بعد سيدة الغناء العربي.