لديّ كتاب بالإنكليزية بعنوان «ألف كتاب وكتاب عليك أن تقرأه قبل وفاتك»، عن الرواية، من سلسلة بصيغة العنوان ذاته حول مواضيع مختلفة عدة. كلمة وفاتك ليست ثقيلة الوطأة في الإنكليزية وطأتها في العربية. وأنا أحتفظ به دليلاً على مئات الروايات التي لم أقرأها. قبل فترة نبهني إلى رواية «الجحيم» لـ»هنري باربوس»، وكنت أتذكر الإشارة إليها تتصدر كتاب «اللامنتمي» لكولن ولسون، الذي شغلنا زمناً في الستينيات. ثم دلّني على رواية لا معرفة لي بها من قبل. رواية بالغة الشهرة، بالغة الأهمية بعنوان «السيد ومارغريتا» للسوفياتي ميخائيل بولغاكوف (1891-1940).

Ad

    لم يكن هذا الرجل حسن الحظ في حياته مبدعاً، ولكنه صار عظيم الحظ بعد مماته. الأمر لم يكن له علاقة بالموت بقدر ما كان له علاقة بنشر روايته هذه، في دولة الرقابة والمحرمات، في المرحلة الستالينية. بدأ كاتباً بالمصادفة، وقد كان طبيباً ممارساً، بعد أن دفعته الرغبة إلى كتابة قصة قصيرة. دفعها إلى إحدى الصحف فنُشرت. وعلى الأثر هجر مهنة الطب، وانصرف إلى الكتابة منذ 1919. كان المسرح هواه الأول، وأنجز فيه عدداً كبيراً من الأعمال الدرامية. ولكنه لم يحقق فيه إلا شهرة محلية. ضيق الأفق الأيديولوجي بدأ يحاصر موهبته مع من حاصر من كتاب المرحلة، حتى مُنع من النشر بصورة قاطعة عام 1929، الأمر الذي دفعه إلى كتابة رسائل عدة للمسؤولين، ومنهم ستالين ذاته، بهذا الشأن، ولكن ما من أمل. ولعل فقدان الأمل هو الذي حفّز قوى خفيةً للإبداع داخله، فشرع في كتابة روايته «السيد ومارغريتا» عام 1929، ولم ينته منها إلى سنة وفاته عام 1940.

    الرواية لم يُسمح لها أن تُنشر حتى عام 1967. ثم تلقفتها ثقافات الأمم، وتُرجمت إلى معظم لغات العالم الحية. وللإنكليزية منها حصة 8 ترجمات، قرأت منها ترجمة مايكل غلينّي.

    الرواية مدهشة، مسلية وعميقة الدلالات. تتحدث عن زيارة قام بها «إبليس» إلى الاتحاد السوفياتي في مرحلة المؤلف، وهي المرحلة الستالينية التي كان الإلحاد فيها توجهاً سياسياً، رسمياً. ولذلك اعتُبرت من قبل عددٍ من النقاد نقداً لاذعاً للمرحلة. على أن هناك آخرين قرأوا فيها منحى دينياً يطرح تساؤلات بشأن العلاقة بين الخير والشر. وهي مناح في التأويل تُفسد الرواية على القارئ. فرواية بالغة الحيوية، وتواقة لمزج الواقعي بالفانتازيا كهذه لا يمكن أن تُحاصر في قوالب رمزية لاحتواء عالمها.

    الرواية تتوزع على ثلاثة مسارات في الحدث، مستقلة ومتداخلة في آن. الأول يتابع حكاية الشيطان المُجسّد بشخص «ولاند»، ومساعديه الثلاثة في دخولهم موسكو، والعبث الدامي والمر الذي يمارسونه مع مسؤولي وموظفي نظامها البيروقراطي الفاسد. ثم مسار حكاية بوتينيوس، الحاكم الروماني لمدينة جوديا في فلسطين، والذي أصدر حكم الإعدام بحق الجوال، أو الفيلسوف المجنون، والذي يعكس صورة المسيح، ولكن ليست بالصيغة المعهودة في الإنجيل. وهي رواية داخل الرواية، كتبها رجل تسميه الرواية

بـ»السيد»، والذي يدور المسار الثالث حول حكاية الحب بينه وبين مارغريتا.

ليس هناك من تطور طبيعي للحدث والشخوص. بدلاً من ذلك، سعى بولغاكوف إلى أن يحلق حراً جنباً إلى جنب مع شخصياته، وكأن إنسان العالم أحوج ما يكون إلى الخيال، والدهشة، وحرية الفكر والروح.

    قرأتُ الرواية بكل الدهشة والخيال والحرية التي تطلّبتها. واتفاق النقاد على أنها واحدة من روائع القرن العشرين ليس مجافياً للحقيقة. وليس عبثاً أن تترجم مرات إلى الإنكليزية، وأن أجد صداها في السينما في 4 أفلام، وفي التلفزيون في مسلسل بولندي من 4 حلقات، وآخر روسي من 10 حلقات يمتد إلى قرابة تسع ساعات، وفي الموسيقى في أوبرات أربع و2 باليه. ولقد شاء حسن الحظ أن أقع على المسلسل الروسي كاملاً في موقع «You Tube»، فشاهدته على عدة أيام بمتعة لا تقل عن متعة القراءة إلا بمقدار.