ما الذي جعلك تجمعين في لغتك الشعرية كأنثى بين كلمات مثل «الوحش» والحلم وحبات الكرز؟ بمعنى آخر، لماذا استعارة الوحش في كتاب عنوانه ملاك وتكتبه أنثى بلغة داخلية رقيقة؟

Ad

اللغة التي أستخدمها هي لغة بسيطة، من اليوم العادي، لكنها من زاوية أخرى لغتي عن القسوة المحيطة بي؛ وهي مفردات تختصر التكوينات النفسية، القوة الداخلية، الجسد الهش، والرؤية الضبابية تجاه الكون التي تمثل الحلم، ودائماً ثمة ما يغبش المشهد لدي. عموماً، ذاكرتي بصرية تجاه السنوات السابقة من عمري، فأنا حقاً لا أذكر الكلام بقدر ما أتذكر الصورة والحركة، وكيف تمت اللحظات وفي أي سياق مشهدي تصاعدت... وهكذا. اللغة التي أكتب بها هي محاولة للخشوع، للتمهل، وغالباً ما أعاني السرعة في التصرفات والحركة، فأنا كائن لا يهدأ، لكن في الكتابة أسترخي كما لو أنني عجوز في التسعين من عمرها. عموماً، يجسد الوحش علاقتي مع هذا الكون. أنا صعبة المراس قليلاً، بسيطة فعلياً، لكن فجأة ما أنسحب وأجلس في الظلمة؛ كلمة صغيرة من أحدهم تبقى في ذهني طويلاً، ولأنني مثلما قلت أعتمد على ذاكرة بصرية، فالمشكلة الحقيقية التي أعانيها أن الكلمة تمثل وجهة نظري عن الأشخاص، كلمات منتقاة تترافق مع شكل بصري لكيفية القول، في حين تتلاشى جمل الآخرين الطويلة، وتعلق كلمات طفيفة وبسيطة فحسب. هكذا يفكر الوحش الذي يدلّ على كل ما هو داخلي.

ألا تعتقدين أن عنوان «ملاك متوحش» كان ليناسب الكتاب أكثر؟

يدل العنوان «ملاك متردد» في المعنى اللغوي إلى الوحش، بطريقة أو بأخرى؛ فالعنوان تركيب وصفيّ وثمة مستويات عدة لفهمه، فالملاكُ لا يَتردَّدُ عادة، أي لا يرجع عمَّا أُمِرَ به ولا يحارُ فيه، بل يفعل ما يُؤمَرُ به، لكن بالطبع ثمة في هذا الملاك ما هو بشري، وهو ملاصق لمعنى الوحش في غرائبيته ومنفصل عنه في آن، إذ يوحي بمعنى صفته المرتبكة وتداخله ككيان بعضه على بعض، وتردده في الحضور والغياب. الملاك المتوحش وصف متناقض، قصدت به الرقة البعيدة عن الوحشية، الرقة المبهمة التي لا تفهم، الموحشة ربما، وهي جزء من شخصيتي الشعرية في نهاية المطاف. يقبع هذا الملاك متخفياً أو ظاهراً في مفاصل ما أقوله.

يعمد بعض النقاد غالباً إلى مقاربة أي شاعر (أو شاعرة) فلسطيني في الشتات من خلال مقارنته بتجارب شعراء فلسطين المعروفين، أين تجربتك من تجربة الشعر الفلسطيني (محمود درويش، سميح القاسم، أبو سلمى... وغيرهم)؟

أولاً، تنتمي الأسماء التي ذكرتها إلى جيل من النكبة، فيما أنتمي أنا إلى جيل آخر. ما تعلمه هؤلاء يختلف عما تعلمته، ونضالهم مغاير عن نضالي، إن صح القول إني أقوم بفعل نضال ما. لست فلسطينية بقدر ما أنتمي إلى ذكرى مدينة جدي صفد، في ما يسرب إلي من أحاديث عنها. وأنا دمشقية في نصفي الآخر، لم أعش في المخيم الفلسطيني ولكن الخيمة لا تفارق أي فلسطيني، فرغم تواجدي في مركز العاصمة كان الحي الذي أسكنه، حي الديوانية، شعبياً. مفهوم الملكية بالنسبة إلي مشوه، كما هو مشوه لدى أيّ فلسطيني، ما لي هو ليس لي، متقاسم ومشروط بالآخر. لا يمكن اليوم أن أنفصل عن فلسطينيتي طبعاً لأنها مكون مهم، في ظروف وكيفية تكوين العائلة التي أنا منها. اللجوء له معنى آخر لدى جيلي، معنى فيه حلم وأمل واستغراب وانفصال. لم كل هذا الأسى الذي حدث سابقاً؟ لمَ لم يستطع الآباء أن ينتصروا؟ وبالتالي الشعر مُكون من الأمور ذاتها.

أنا منفصلة عن أية تجربة فلسطينية، مع أهمية تجاربهم وجديتها وجدتها، أنا ذاتية ومهمشة، وأحاول أن أبني وطني الخاص، أحلامي الخاصة، الوطن هو الذات، هو قرينها، عندما تكون ذاتك مهتزة يكون وطنك مهتزاً، وعلى العكس، ذاتي مهتزة بشكل لا يمكنني من الحكم على مدى شعريتي، أو المقاربة بينها وبين الغير. يعيش الآخرون السابقون توازناً أكبر من توازن أجيالنا نحن، ويستطيعون الحكم على تجاربهم وتجاربنا، فيما لو كانوا لا يزالون على قيد الحياة، إلا أنني أرى، ولا أتكلم هنا عن شعراء فلسطينيين فحسب، أن هذا الجيل الشعري يمارس دكتاتورية على الجيل الجديد ويهمشه، ولا يعتبره موجوداً بشكله الموجود عليه، وكأنهم تحت سماء تختلف عن السماء التي نحن تحتها، هم مثقلون بالملل من العالم المتطور السريع، ونحن نستمتع مع جنوننا الراهن.

اخترت تقنية معينة في تقطيع بعض القصائد وثمة ملامح للفن التشكيلي في قصائد أخرى، مع أنك ناقدة مسرح وتكتبين في هذا المجال... بمعنى آخر، كيف تولد قصيدتك بنسختها الأخيرة كما نقرأها في الديوان؟

التشكيل في نهاية الأمر فن بصري، يعتمد على المشهدية ذاتها التي تتوافر في المسرح، وهو صامت، لكنه يحتمل الإيقاع البصري، وأحياناً يكون صاخباً ومدوياً. أحب أعمال التشكيلية المكسيكية فريدا كالو، فمن ألمها رسمت نفسها مرة تلو أخرى، أرادت أن تعيد تكوين جسدها المحطم بطريقة سوداء وحزينة، ومليئة بدماء الجراحات التي خضعت لها. التقطيع هو قص المشاهد وإعادة ترتيبها، وفق منطق يكون أحياناً حكيماً، وأحياناً غامضاً. لست سوريالية بالتأكيد، على العكس، جهدت في هذا الكتاب أن أكون واضحة الجمل والصور، وغير متكلفة، بالمقارنة مع تأثري بالشعر الجاهلي والأدب العربي الرصين الذي درسته أكاديمياً. أحاول أن أكون مرحة قليلاً مع القصيدة، وأعجز أحياناً فتأتي موسيقى النص الداخلية لتفرحني.

أمسك أحد الأشخاص كتابي وبدأ يقرأ، قال: أسمع موسيقى، نبرات تشبه صوتك العادي». سررت بهذا التعليق، كما سررت مرة حينما قالت لي صديقة ناقدة في مجال الشعر هي ديمة الشكر إن كتابي هو كتاب سيرة ذاتية، وإن من الجرأة بمكان أن يبدأ شاعر بكتاب يحوي سيرته الذاتية. كذلك سررت لأنني أغني حقيقة نفسي، كما أقول في إحدى القصائد، رغم كوني طبعاً النص الأناني للحقيقة.

جاء في تعريف كتابك أنه رؤية مستجدة في النظرة إلى علاقة المرأة بالرجل، حاولت الشاعرة تفكيك رموزها، وإعادة صوغها في متاهات الحلم، بعيداً عن قسوة الواقع. ما هذه الرموز بالنسبة اليك، وهل تتعلق بك شخصياً، أم أنك تنظرين إلى علاقة الرجل بالمرأة بشكل عام؟

لست أنا من وضع تعريف الكتاب، بل الدار. أكتب بفطرية عالية، وقد قال لي أحدهم «إنني عذراء في الشعر»، وآخر قال «إنني شاعر أكثر ما أنا شاعرة»، طبعاً يقصد النضوج في الحديث عن الحب، من دون ميوعة أو ندب في القصائد. علاقتي مع الرجل علاقة فيها شغف، أحب هذا الكائن وأراه جميلاً، أفهمه بعمق، وهو كائن فيه حنان أكثر من الأنثى أحياناً. الأنثى قاسية في ما يخص غيرها. أما الرجل فهو كغيمة تلحق بك وتمطر عليك، من دون أن تطلب منها ذلك، إنه خيّر في الحب. علاقتي مع الرجل ممتعة، وأعتقد أن السبب هو لقائي مع رجل رائع منذ سنوات عدة نضجت معه اسمه مظفر سلمان، وأفتخر به كثيراً كمبدع ومثقف. وثمة طبعاً أصدقاء رجال بمثابة ملهمين لي، آباء إن صح التعبير. عموماً، يحتاج الرجل إلى أن تعامله كطفل جائع، وبعدها على المرأة أن تنتظر أفضل ما لديه.

هل أعطى النقد ديوانك الأول حقه؟

كنت أود لو يخرج علي أحد بمقال يستفزني لأعيد ترتيب أسلوبي الشعري، أو أحاسب قصائدي بقسوة. كتبوا كما لو أنني صرت شاعرة مرة واحدة، وربما أنا من تفرح بالقليل؛ لكن بالطبع أقدر ما كتب، ولا أشك في نزاهته. حتى الآن، أشعر أن الناقد الوحيد الذي لامس قصائدي وعرف عني ما خفي في المعنى هو الناقد السوري عابد إسماعيل الذي كتب في جريدة «الحياة» اللندنية مقالاً مبكراً عن الكتاب، والحوار الذي أجراه معي الشاعر والمترجم إسكندر حبش في جريدة «السفير» أدهشني بعد صدوره. يتكلم المرء أحياناً كما لو أنه يتحدث عن شخص آخر.

في العدد الأخير من مجلة «ذي وولف» الإنكليزية المختصة في الشعر ملف عن الشعر السوري، وقد ترجمت قصيدتي «قناص» من الكتاب إلى اللغة الإنكليزية والمترجم هو الشاعر السوري جولان حاجي. أعتبر أن هذا نقد مميز لي، فحاجي أحد الأصوات الشعرية الشابة المرموقة، وهو مترجم رصين ومتأنٍ ومتابع لأدق التفاصيل. لقد ناقش معي خلال عملية الترجمة كل جملة والمقصد منها، وسبب ربطها بما قبلها وما بعدها، والمعنى الناتج من كل مقطع. يهمني أن أعمل مع أشخاص جادين، ولو كان العمل قليلاً؛ كذلك أُخذ من الكتاب ثلاث قصائد، هي: «كنت وحشاً»، «لا غبش سواي»، «نهدي كان قمراً»، وترجمت إلى اللغة الفرنسية ونشرت في أنطولوجيا الشاعرات العربيات، التي أصدرتها الشاعرة السورية مرام مصري بعنوان «نساء»، عن دار النشر الفرنسية «لو تامب دو سيريز» le temps de cerises، في العام الماضي 2012. نعم، علي ألاّ أفكر في النقد الآن، ليس علي سوى طباعة كتابي الجديد.