ما الفائدة التي تعود علينا من خبراء الاقتصاد؟!

نشر في 18-05-2013
آخر تحديث 18-05-2013 | 00:01
علم الاقتصاد، على النقيض من علم الطبيعة، نادراً ما يقدم نتائج نهائية قطعية، ذلك أن المنطق الاقتصادي سياقي (مرتبط بالسياق)، حيث تتكاثر الاستنتاجات بقدر ما تتكاثر الظروف في العالم الحقيقي، وكل الأطروحات الاقتصادية تقوم على منطق فرضية الحدوث وبالتالي فإن التوصل إلى العلاج الأنجع في ظل ظروف بيئية بعينها هو في واقع الأمر حرفة لا علم.
 بروجيكت سنديكيت فضيلة الاعتراف

عندما تزداد المخاطر، فمن غير المستغرب أن يستخدم الخصوم السياسيون المتصارعون أي قدر من الدعم يمكنهم تأمينه من جانب خبراء الاقتصاد وغيرهم من الباحثين. وهذا هو ما حدث عندما تبنى الساسة الأميركيون المحافظون والمسؤولون في الاتحاد الأوروبي عمل أستاذين من جامعة هارفارد-  كارمن راينهارت وكينيث روغوف- لتبرير دعمهم للتقشف المالي.

كان روغوف وراينهارت قد نشرا بحثاً بدا وكأنه يظهر أن مستويات الدين العام التي تتجاوز 90% من الناتج المحلي الإجمالي تؤدي إلى تعويق النمو الاقتصادي بشكل كبير. ثم قام ثلاثة من خبراء الاقتصاد من جامعة ماساتشوسيتس في أمهرست بما يفترض أن يقوم به الأكاديميون عادة- تكرار عمل زميليهم وإخضاعه للنقد.

وإلى جانب خطأ صغير نسبياً في الجداول، رصدوا بعض الخيارات المنهجية في عمل راينهارت/روغوف الأصلي، فأصبحت قوة النتائج التي توصلا إليها موضع تساؤل وارتياب. والأمر الأكثر أهمية، على الرغم من بقاء مستويات الدين والنمو على ارتباطها السلبي، فإن الأدلة المؤيدة لحجة عتبة الـ90% تبين أنها كانت ضعيفة للغاية. وكما زعم كثيرون، فإن الارتباط المتبادل ذاته ربما كان راجعاً إلى انخفاض النمو على النحو الذي أدى إلى ارتفاع المديونية، وليس العكس.

والواقع أن راينهارت وروغوف حاولا بكل قوة تفنيد الاتهامات الموجهة إليهما من قِبَل العديد من المعلقين بأنهما كانا شريكين في لعبة الخداع السياسي، ولو بشكل غير متعمد. فدافعا عن أساليبهما التجريبية، وأصرا على أنهما ليسا من صقور العجز كما يحاول منتقدوهما تصويرهما.

وكانت العاصفة النارية الناجمة عن ذلك سبباً في حجب عملية صحية من التدقيق في البحوث الاقتصادية وتنقيحها، وسرعان ما اعترف روغوف وراينهارت بالخطأ الذي ارتكباه في جدول الإكسل. وقد أوضحت التحليلات المتبارزة طبيعة البيانات، وحدودها القاصرة، والفارق الذي أحدثته الطرق البديلة للمعالجة في النتائج. وفي نهاية المطاف، لم يكن روغوف وراينهارت بعيدين إلى هذا الحد عن منتقديهما سواء في ما يتصل بما أظهرته الأدلة أو العواقب المترتبة على السياسات.

قواعد الاشتباك

بالتالي فإن الجانب المضيء في هذا الشجار هو أنه أثبت أن خبراء الاقتصاد من الممكن أن يحرزوا تقدماً وفقاً لقواعد العلم، وبصرف النظر عن مدى تباعد الآراء السياسية، فإن الجانبين استخدما لغة مشتركة حول ما يشكل دليلاً- في أغلب الأمر- والنهج المشترك في حل الخلافات.

وتكمن المشكلة في مكان آخر، في الطريقة التي يُستخدَم بها خبراء الاقتصاد وبحوثهم في المناقشة العامة. إن قضية راينهارت/روغوف لم تكن مجرد مراوغة أكاديمية. فبسبب انتشار الحديث عن عتبة الـ90% في الدوائر السياسية، اكتسب هدمها في وقت لاحق أيضاً مغزى سياسياً. فعلى الرغم من احتجاجاتهما، وجهت إلى راينهارت وروغوف تهمة توفير الغطاء الأكاديمي لمجموعة من السياسات التي لم يقم عليها في واقع الأمر إلا قلة محدودة من الأدلة الداعمة. ومن بين الدروس الواضحة هنا أننا في احتياج إلى تبني قواعد اشتباك أفضل في التعامل بين الباحثين الاقتصاديين وصناع السياسات.

والحل الذي لن ينجح أبداً هو أن نقوم بتوجيه الانتقادات إلى خبراء الاقتصاد حول الكيفية التي قد تستخدم بها أفكارهم أو يساء استخدامها في المناقشة العامة وتلوين تصريحاتهما العامة بنفس الصبغة. على سبيل المثال، ربما قلل روغوف وراينهارت من أهمية النتائج التي توصلا إليها- كما حدث بالفعل- من أجل منع إساءة استخدامها من قِبَل صقور العجز. ولكن قِلة من خبراء الاقتصاد مهيؤون بالقدر الكافي لتكوين فكرة واضحة عن الكيفية التي تمارس بها السياسة ألاعيبها.

وعلاوة على ذلك، فعندما يضبط خبراء الاقتصاد رسالتهم بحيث تناسب الجمهور المتلقي، فإن النتائج تصبح عكس المقصود تماماً: فسرعان ما يفقدون مصداقيتهم.

الحمائيون البرابرة

ولنتأمل هنا ما يحدث في عالم التجارة الدولية، حيث أصبح تظليل البحوث على هذا النحو ممارسة معتادة. فانطلاقاً من خوفهم من تمكين "البرابرة من أنصار تدابير الحماية" يميل خبراء الاقتصاد التجاريين إلى المبالغة في فوائد التجارة والتقليل من حجم التكاليف التوزيعية المترتبة عليها أو غير ذلك من التكاليف. وفي الممارسة العملية، ينتهي الأمر عادة إلى اختطاف حججهم من قِبَل جماعات المصالح على الجانب الآخر- الشركات العالمية التي تسعى إلى التلاعب بقواعد التجارة لمصلحتها. ونتيجة لهذا فإن خبراء الاقتصاد نادراً ما يُنظَر إليهم باعتبارهم وسطاء أمناء صادقين في المناقشة العامة بشأن العولمة.

بيد أن خبراء الاقتصاد يتعين عليهم أن يضاهوا بين صدق ما تقوله أبحاثهم والصدق حول الطبيعة المؤقتة المتأصلة في ما يمررونه باعتباره دليلاً في مهنتهم. إن علم الاقتصاد، على النقيض من علم الطبيعة، نادراً ما يقدم نتائج نهائية قاطعة. ذلك أن المنطق الاقتصادي سياقي (مرتبط بالسياق)، حيث تتكاثر الاستنتاجات بقدر ما تتكاثر الظروف في العالم الحقيقي. وكل الأطروحات الاقتصادية تقوم على منطق فرضية الحدوث "إذا حدث كذا... فحينئذ سيحدث كذا...". وبالتالي فإن التوصل إلى العلاج الأنجع في ظل ظروف بيئية بعينها هو في واقع الأمر حرفة وليس علماً.

تقنيات عشوائية

وثانياً، نادراً ما تكون الأدلة التجريبية جديرة بالثقة بالقدر الكافي لتسوية أي خلاف يتسم بانقسام الآراء بشكل حاسم. ويصدق هذا بصورة خاصة في عالم الاقتصاد الكلي بطبيعة الحال، حيث البيانات قليلة ومفتوحة لتفسيرات مختلفة.

ولكن حتى في الاقتصاد الجزئي، حيث يمكن في بعض الأحيان توليد تقديرات تجريبية دقيقة باستخدام تقنيات عشوائية، فلابد من استقراء النتائج من أجل تطبيقها في ظروف مختلفة. والواقع أن الدليل الاقتصادي الجديد يخدم في أحسن الأحوال كوسيلة لدفع وجهات النظر- القليل هنا، والقليل هناك- التي يتبناها أولئك الميالين إلى الانفتاح على الرأي الآخر.

وهذه كلمات لا تُنسى وردت على لسان كبير خبراء الاقتصاد لدى البنك الدولي، كوشيك باسو: "هناك أمر واحد يعلمه الخبراء علم اليقين، ولا يعلمه غير الخبراء، وهو أن ما يعلمونه حقاً أقل كثيراً مما يتصور غير الخبراء أنهم يعلمونه". إن الآثار المترتبة تذهب إلى ما هو أبعد من ضرورة عدم الإفراط في الترويج لنتائج بحث بعينه. فالصحافيون، والساسة، وعامة الناس، يميلون إلى إقامة وزن أكبر مما ينبغي لما يقوله خبراء الاقتصاد، وينسبون إليهم قدراً من الدقة والإحكام ينبغي أن يزعج حتى خبراء الاقتصاد أنفسهم. ولكن من المؤسف أن خبراء الاقتصاد نادراً ما يتواضعون، خصوصاً في حضرة عامة الناس.

لا يوجد أي شيء آخر ينبغي لعامة الناس أن يعرفوه عن خبراء الاقتصاد: فإن البراعة وليس الحكمة هي التي تساعد خبراء الاقتصاد الأكاديميين في التقدم في حياتهم المهنية. واليوم لا يميز أساتذة الاقتصاد في أرقى الجامعات أنفسهم بقدرتهم على التعرف على الصواب في العالم الحقيقي، بل باصطناع تقلبات نظرية خيالية أو طرح أدلة جديدة. وإذا مكنتهم هذه المهارات من التحول إلى مراقبين متبصرين للمجتمعات الحقيقية وقادرين على الخروج بأحكام سليمة، فإن هذا نادراً ما يكون نابعاً من تصميمهم الأصلي.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top