ما وراء حنجرة المغني

نشر في 12-03-2013
آخر تحديث 12-03-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس أعلنت مؤسسة البابطين للإبداع الشعري مؤخراً نتائج الفائزين في مجال الشعر لهذا العام، ومن ضمنها نتيجة أفضل ديوان شعر، والذي فاز به الشاعر السعودي جاسم الصحيح عن مجموعته: ما وراء حنجرة المغني.

 والديوان يعلن ببداهة بأن شعرية جاسم الصحيح مرتكزة على اللغة وعلى اللعب باللغة ليس غير. ففي نصوصه هناك اشتغال دؤوب على حرث تربة اللغة وإخراج ما في أحشائها من إمكانات ثرية تبرز في الصياغة والاشتقاق والتوليد والتأليف والتفنن في المجاز. يأتيه ذلك بطواعية وبأقل جهد ويتم بسلاسة وتلقائية مدهشة، وكأن الشاعر يغرف من نهر جارٍ لا ينفك يتدفق بين يديه:

غامرتُ بالمهرة الفصحى أُصعّدها / عدواً إلى التلّة القصوى من اللغةِ

للمفرداتِ لحاءاتٌ أُقشّرها / على يديَّ وأحيا عُريَ مفردتي

وللمحابرِ إعصارٌ أُفكّكه / في النص زوبعةً في إثرِ زوبعةِ

ما أتعسَ الغصنَ حظاً حين تفطمه / فأسٌ ويكبرُ في أحضان مقلمتي

 ولما بدا الشاعر في معظم نصوصه عاشقاً للغة الشعرية وسحر هذه اللغة، فقد أصبح الشعر هوية للشاعر وصنو نفسه أكثر من مجرد وسيلة تعبير. في نص (ما وراء حنجرة المغني) تعبير مباشر وحيّ عن هذا العشق الذي غدا مذهباً للشاعر ومعتقداً وخلاصاً. وهو في مقارباته النصية يعلن رغبته الملحة في الخروج عن المألوف والمكرر، وجدّه في البحث عن صوته المميز والمختلف. ولعله نجح في ذلك إلى حدّ ما.

يبدو الشاعر أحياناً غير قادر على السيطرة على انسياب النص. فاللغة المتدفقة تغري الشاعر باستطراداتها فيجري خلفها دون هدى، الأمر الذي يقود إلى إطالات وترهلات أسلوبية لا داعي لها. وخير مثال على ذلك نص (ما وراء حنجرة المغني) الذي حوله الاستطراد والتفاصيل إلى معلقة. وأعتقد أن الإطالة المبالغ فيها في هذا النموذج وغيره ليست في صالح النص.

 ولغة الشاعر فوق ذلك تبدو لغة حية ونضرة، تستقي مادتها من الحياة المعاصرة ومفردات هذه الحياة. ورغم تأثر الشاعر بالعناصر الكلاسيكية للقصيدة العربية كالحرص على الشكل العمودي في الكثير من نصوصه وكالنفس الطويل، إلا أنه يبدو معاصراً في مقارباته، منحازاً إلى التجديد في روح النص وبنائه الداخلي. أما الشكل فإلى جانب التشكيل العمودي هناك أيضاً اهتمام بقصيدة التفعيلة:

كلما هطل الليلُ بالأصدقاء / وصافحتهم غيمةً... غيمةً... عند باب المساء

شددنا حبال الكلام على أسطح أوجاعنا / ونشرنا معاً من غسيل الحكايات ما لا يجفُّ...

ربما تتذكرنا الطاولاتُ التي سترت عريها / بنسيج أحاديثنا

حين كنا نفصّ فقاعات أعمارنا / ونسلسلُ خيط الأحاديث من بكرة الوقتِ مشنقة حول عنق السأم .

 أما مسألة الإلهام لدى الشاعر فلا تنبع إلا من ذاته ونفسه وجمجمته كما يعبّر ، وليس من مصدر خارجي بعيد عن الذات ! وتلك الذات تبدو مهمومة بالبحث عن مرفأ ضبابي ومعتقد فكري لا تتحدد ملامحه، يسميه مرة (اليقين): «آه أيها اليقين... لقد تفسّخ القلب من البصاق وأنا أبحث عنك في الأفكار والعقائد». ويسميه آناً آخر (الحرية): «تعالوا نقيم عيد جلاء السلالة من قاماتنا ونسرق من صُلب النسل نطفة الحرية». بيد أن ذلك (اليقين) وتلك (الحرية) ينقصهما الكثيرمن الرسوخ والصلابة في نصوص الشاعر وفي مجموعته الشعرية ككل! إذ تكاد تكون هذه القضية ضبابية وباهتة في جلّ ما كتبه الشاعر.

ورغم أن معظم نصوص الشاعر تندرج تحت موضوع المرأة والحب، إلا أنها بدت امرأة عابرة مرتبطة بالصدفة والغزل العابر، والحب المرتبط بها ليس غير حب شهواني عابر أيضاً، لا يغذي غير الغريزة وحرارة اللحظة دون أي بعد إنساني يُذكر، إذ سرعان ما يتقوّض هذا الحب بانتهاء النص دون التفاتة أو ندم!

back to top