«أنا وبورخس»
يُـعدّ الكاتــــب الارجنتيـني جورجــي لويـــس بورخـيــس(Jorge Luis Borges 1899-1986)، أحد أهم كتّاب القرن العشرين في الشعر والقصة والنقد، وقد عُرف بإحاطته بأكثر من لغة وتشربه بآداب مختلف الحضارات العالمية، مثلما عُرف بذاكرته الحديدة بالرغم من فقدانه لبصره. وفي مختاراته «مرآة الحبر» ترجمة محمد عيد إبراهيم، قصة قصيرة لافتة بعنوان «أنا وبورخس»، يبدأها بقوله: «إنما الآخر، المسمى بورخس، هو من تبرز له الأشياء... من البريد أعرف عن بورخس، وأرى اسمه في قائمة المشاهير أو قاموس التراجم». يناقش بورخس في هذه القصة قضية انشطار وتوزع روح ووعي الكاتب إلى شخصيتين: إنسان يحيا كباقي البشر، وكاتب يسجل بكاميرا ذائقته وموقفه من الحياة وعينيه وأذنيه وباقي حواسه ما يعيشه، وكيف أن شخصية الكاتب تُسخّر شخصية الإنسان لخدمة أغراضها. ومن هذه الزاوية يبرز العداء بين الشخصيتين، كون شخصية الكاتب تُفسد على شخصية الإنسان لحظة متعتها، وتعيش عبئاً ثقيلاً عليها، وأن شخصية الإنسان تمارس حياتها بوصفها خادماً متفانياً لخدمة طموح ونزوات ورغبات شخصية الكاتب.
«ولأن كل شيء يتوق لتأكيد كينونته، تود الصخرة أبدياً لو تظل صخرة، والنمر نمراً». وكذا فإن شخصية الإنسان ستبقى أبداً في شخصيته ككاتب، وليس في ذاته. كون الإنسان يتعرف على ذاته عبر شخصيته الكاتبة وعبر كتاباتها. إن توزع الكاتب بين الشخصيتين، يجعل الإنسان منقاداً إلى الكاتب فيه، مهما حاول التحرر منه، وبهذا يخسر الإنسان لحظات حياته، بينما يكسبها الكاتب. وهذا يُفسد على الإنسان حياته تماماً لأنه لا يمتلك التمتع بمسراتها أو أحداثها الجارية، بقدر من يكون موظفاً مكلفاً برصد وتسجيل وتوثيق كل ما يمر به، وخزنه والحفاظ عليه، لحين يطلبه الكاتب فيه، فيقدمه في أحسن هيئة عل شخصية الكاتب ترضى عنه. وكم هي فادحة الخسارة في أن تعيش عبداً لشخصية نهمة لا تشبع ولا تقرّ لك بفضل أو ترضى عنك!وتقع الحيرة أحياناً حين يقف الإنسان أمام ما كتبه ليتساءل: منْ فينا الذي كتب هذه الجملة وهذه الفقرة وهذه القصيدة وهذه القصة؟ هل أنا من خطّ هذه الأسطر؟ أم أنه الآخر القابع هناك في العمق من ذاتي أخذ مني كل ما يمكن أخذه وخطّ ذلك وفق طريقته؟ ويحدث في أحيان قليلة أن تطرب نفس الإنسان لما كتبه الكاتب فيه، ولكن في لحظات كثيرة تصيبه الخيبة مما خطه الآخر، ولحظتها ينفض الآخر يده من كل شيء ويصدّ بوجهه وكأنه لا علاقة له البتة بما كتبه!إن كل إنسان يحيا محيطه الضيق المتمثل بظرف حياته الخاصة، ويحيا إلى جانب ذلك في حركة مجتمع محكوم بأفكار وقناعات وقيم وعادات وتقاليد، وفي سياق الحياة البشرية، فإن المجتمعات الإنسانية تكون عادة قاسية لا تتهاون مع منْ يخرج على قيمها التي اعتادت، ولا تتسامح أبداً مع من يمسّ عادتها ويسخّفها، وهذا ما يجعل الكاتب عرضة للكثير من الأذى إن هو طاوع روحاً نزقة متشوفة لا تعمل حساباً لأحد، وترى الأمور بمنظارها الخاص الذي يختلف عما هو سائد، ويزيد الأمر سوءا متى ما تنبه الكاتب القابع في الإنسان إلى سقم وتفاهة ما هو جار، وكتب يحضّ على تجاوزه ونبذه، ولحظتها يجد الإنسان نفسه في مواجهة مجتمع ساخط وناقم عليه، وقد يدفع الإنسان غالياً نتيجة تهور روح الكاتب فيه!متى ما تمكنت الكتابة من إنسان وصارت شغله الشاغل، يتحول بدوره ليكون عبداً لها، يأتمر بأمرها ويضحي بحياته في سبيل إرضاء نزعتها. وهو بذلك إنما يضحي بعمره في سبيل الكتابة.