من الذاكرة: الساعة
كان قطيع الأغنام يستمتع بشمس ذلك اليوم الربيعي الدافئ وكان هو ينهمك في مطاردة بعض البقوليات والجذوريات والعشبيات مثل :"التُّويس" و"كريشة الجدي" و"البُريْدْ" و"الدريهْمهْ" و"المرَّار".. كان بين فينة وأخرى يرسل عينيه نحو السماء ليتأكد من أن بعض الغيوم المتفرقة والمشتتة لا تحمل أمطاراً تعكر صفو يوم جميل.لم يكترث بحداء راعٍ آخر.. كان قطيعه من الأغنام السوداء "الماعز" يبدو على الربوة المقابلة كوشم على محيا نشمية مليحة.. بقي يتابع البحث عن البقوليات والجذريات البرية وفي بعض الأحيان كان يتوقف ليقتلع بـ"محْفاره" الطويل المصنوع من جذوع شجر البلوط "كَعُّوبة" لا تزال شوشتها لم تخرج نهائياً من بطن الأرض وفي أحيان أخرى كان يعبث بـ"المحفار" نفسه بعش ديدان "الشبَّارة" الربيعية التي لا تظهر إلا في هذا الفصل من كل عام.
إقترب بحذرٍ شديد من هذا الشيء المتوهج اللامع.. الذي كان رأسه المستدير ينتهي بذيل لماع طويل.. كان وهو يقترب ببطء وحذر يرفع "محفاره" البلوطي إلى الأعلى إستعداداً للدفاع عن نفسه.. إقترب.. وإقترب أكثر فسمع صوت "تكتكة" خافتة ورأى لساناً رفيعاً يتحرك من طرف الرأس المستدير إلى الطرف الآخر.. لقد خانته شجاعته فأطلق صرخة مدوية تردد صداها في الأودية المجاورة.. وأتبعها بإستغاثات متلاحقة :"يا ويلي.. يا ويلي.. عفريت.. إمْفاوْلي عفريت.. يا حسرتي.. إلحقوني".سمع الإستغاثة الراعي الذي كان على الربوة المقابلة.. فأخذ يصرخ ويستغيث وسمع الراعي "طَحَّانٌ" كان في طريقه إلى "طواحين عدوان" فأخذ يستغيث هو بدوره.. فضجت الأودية بالعويل والصراخ.. ووصل الصراخ إلى الرجال الذين كانوا يستمتعون بكسل غامر بتناول فناجين القهوة "المُعَنْبرة" في أحد مضارب العشيرة فأنطلقوا بعضهم ركضاً على قدميه وبعضهم خبباً على صهوة فرسه.. وإقترب الجميع من ذلك الراعي الذي كان لا يزال يواصل الصراخ وهو مرة يركض في إتجاه ذلك الشيء الملتهب اللامع ومرة في إتجاه حافة المرتفع المطل على مضارب العشيرة...وصل الجميع إلى مسرح المعركة وبدأ بعضهم المواجهة مع هذا العفريت اللامع برجمه بالحجارة وزحف إثنان منهم في إتجاهه كما يزحف الجنود في إتجاه العدو في الخنادق المتقابلة.. كان أحد هؤلاء الإثنين هو السبَّاق في الوصول إلى الهدف.. فمد يده وأمسك بهذا الشيء الملتهب من ذيله الطويل.. رفع ساعة الجيب التي كانت عقاربها تتحرك بدقات مرتفعة وأطلق ضحكة مدوية ثم أردف موجهاً كلامه للزحف اللجب وللرجال المتهيئين للهجوم.. إنها ساعة.. ألَم تروْها مع "مُوفِدْ" عندما جاء وفريقه لمساحة الأراضي بعد رحيل العثمانيين.